تمثال منظر الرأسمالية آدم سميث في اسكتلندا (أ ف ب)
تمثال منظر الرأسمالية آدم سميث في اسكتلندا (أ ف ب)

بقلم جمال أبو الحسن/

قد تكون "مؤسسة الملكية الخاصة" هي الأخطر من بين المؤسسات التي ابتدعها الإنسان. هي اليوم واحدة من تلك المؤسسات التي نعتبر وجودها مفروغا منه. قلما يقف المرء للتأمل في دور هذه المؤسسة ـ القديمة قدم المجتمعات الإنسانية ـ في تسريع وتيرة التطور البشري.

عبر التاريخ، كانت الملكية الخاصة حجر الزاوية في الاستقرار الاجتماعي والسياسي. استقرار حق الملكية الخاصة في بلد من البلدان يجعل الناس شركاء في السيادة. يعزز مصلحتهم في استقرار النظام السياسي القائم لأنه ما يضمن صيانة هذا الحق. المجتمعات الأكثر توسعا في توزيع الملكية أكثر استقرارا، وأكثر محافظة لأن مواطنيها ينزعون للدفاع عن الوضع القائم. في المقابل، يعد غياب مفهوم الملكية الخاصة وصفة مضمونة للتوترات الاجتماعية والاضطرابات حيث لا يكون عند الغالبية ما يخشون فقده.

تحول نظام الملكية إلى "نظام تمثيلي" أو رمزي يستخدم العقود والسندات للإشارة إلى الممتلكات المادية

​​إن رسوخ مفهوم الملكية الخاصة في حياتنا أمر يتعين أن يثير دهشتنا. هذا المفهوم المؤسس قد يكون أكثر استقرارا في الوعي العام ونظام الحياة المعاصرة من مفهوم سيادة الدول نفسه. على سبيل المثال، حظر القانون الدولي في اتفاقية لاهاي (1899) العادات القديمة للجيوش الغازية في نهب ممتلكات الناس بعد احتلالها لأراضي أمم أخرى. معنى ذلك أن القانون الدولي يعامل حقوق الملكية للأفراد باعتبارها أكثر قداسة من حقوق السيادة للدول! قد يحدث أن تفقد الدولة سيادتها على إقليمها بالغزو والاحتلال، ولكن ذلك لا يعني فقدان الأفراد في الدولة المحتلة لأراضيهم وملكياتهم الخاصة!

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: كيف يجسدها "إيلون ماسك"؟ (3)

ما السر وراء قوة هذه المؤسسة؟ وما علاقتها بالرأسمالية؟

الحال أن مأسسة الملكية كانت خطوة كبرى تزامنت مع الانتقال من حياة الجمع والصيد والالتقاط إلى حياة الزراعة. أغلب الظن أن من عاشوا حياة الصيد لم يكن لديهم مفهوما محددا عن الملكية. الأدوات المطلوبة للصيد قليلة، والعمل يقوم به الجميع، والرزق يجري اقتسامه. الملكية الخاصة، في المقابل، مرتبطة بحياة الاستقرار والزراعة. هذه النوعية من الحياة احتاجت إلى تحديد ملكية الأشياء بصورة واضحة. هذا بيتي، وهذه أرضي، وذاك فأسي.. إلخ.

هذا المفهوم عن الملكية لا يجنب المجتمعات الصراع، وقد يتسبب في إشعالها. ذلك أن الملكية ترتب حتما تفاوتا بين البشر. ومن العجيب أن المنظر الأكبر للرأسمالية آدم سميث قد لاحظ هذا "الشر الكامن" ـ إن جاز التعبير ـ في فكرة الملكية. كتب في "ثروة الأمم" يقول: "أينما تكون الملكية الكبيرة يكون انعدام المساواة كبيرا.. إن الحكومة المدنية، التي يتم إقامتها لتأمين الملكية الخاصة، هي في الواقع مؤسسة من أجل الدفاع عن الأغنياء في مواجهة الفقراء.. أو الدفاع عن هؤلاء الذين لديهم بعض الملكية الخاصة، في مقابل أولئك الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق".

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: أصل الفكرة (2)

إن ارتباط الملكية بظهور الدولة كمنظومة سياسية يعد فكرة محورية كشف عنها فلاسفة العقد الاجتماعي. أشار جون لوك، فيلسوف الليبرالية الأهم، إلى أن "السبب في تكوين الأفراد للمجتمع هو رغبتهم في الحفاظ على الملكية". هذه نقطة محورية في فلسفة لوك. هو يعتبر أن حق الملكية هو الحق المؤسس لكافة الحقوق الأخرى. هو حق طبيعي لا يمكن انتزاعه من الفرد. أول ـ وأهم ـ مجال يمارس فيه الإنسان هذا الحق هو جسده الذي لا يمكن أن ينازعه في ملكيته له أي فرد أو جماعة أو مؤسسة.

لقد أدرك فلاسفة العقد الاجتماعي أن الحق في الملكية الخاصة ليس مؤسسا على القانون أو قوة الدولة. بل إن القانون وضع من أجل حماية هذا الحق. أشار لوك بوضوح إلى أن الناس أقاموا الحكومات، وتنازلوا لها عن بعض الحقوق، من أجل ضمان تمتعهم بحقهم الأصيل في الملكية، الذي يعد الأصل في كل الحقوق الأخرى.

إن ارتباط الملكية بظهور الدولة كمنظومة سياسية يعد فكرة محورية كشف عنها فلاسفة العقد الاجتماعي

​​انطلاقا من هذا الأساس الفلسفي، قدم آدم سميث أفكاره الرئيسية حول النظام الرأسمالي. اعتبر أن ملكية الإنسان لناتج عمله تمثل أصل كل الحقوق الأخرى. الرأسمالية تفترض أن الملكية الخاصة تشجع الإنسان على تطوير ما لديه من رأس مال، ومن ثم توليد المزيد من الثروة.

رأس المال مفهوم أكثر تركيبا من مجرد الملكية. هو مفهوم يشير إلى الأصول التي يتم مراكمتها لأغراض إنتاجية. كلما زاد تراكم رأس المال، يمكن تحقيق مزيد من التخصص في العمل. هذا التخصص ـ كما شرح سميث ـ هو أصل توليد القيمة المضافة والثروة.

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)

كيف تحولت الملكية إلى رأس مال؟

أصل كلمة رأس المال يعود ـ في اللغة اللاتينية ـ إلى الماشية. كانت هذه مصدرا مهما للثروة حتى العصور الوسطى. هي أيضا ثروة منقولة، يمكن إحصاء حجمها، ومبادلتها بسهولة. الأهم هو أن بالإمكان الحصول منها على ثروة إضافية (عبر التوالد)، وبالتالي يتولد فائض القيمة.

كأغلب المنظومات التي ابتدعها الإنسان، فإن نظام الملكية تحول إلى "نظام تمثيلي" أو رمزي يستخدم العقود والسندات للإشارة إلى الممتلكات المادية. البعض يربط بين ظهور الكتابة ـ أهم "منظومة تمثيلية" اخترعها البشر ـ وبين الحاجة إلى تثبيت الملكية وتدوين المعاملات الخاصة بها. اختراع النقود يتأسس بدوره على افتراض استقرار الملكية الخاصة، فالنقود ليست ـ في واقع الأمر ـ سوى صكوك للملكية.

تحول الملكية إلى "نظام رمزي" (من خلال العقود وسندات الملكية) كان خطوة جوهرية في تحويل الأصول إلى رأس مال قابل للاستبدال والتداول والبيع والمشاركة، أي لوسيلة لتوليد الثروة. في المنظومة الرأسمالية، البيت ليس مجرد مكان للمأوى. البيت هو أصل يمكن استخدامه للحصول على الائتمان، وبالتالي الاستثمار.

يرى البعض أن سر نجاح الرأسمالية في الغرب يرجع إلى استقرار حقوق الملكية وتنظيمها في صورة قانونية تسهل استثمارها والاستفادة منها تجاريا، وذلك بخلاف الدول النامية التي فشلت في تحقيق هذا الأمر.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.