بقلم جمال أبو الحسن/
قد تكون "مؤسسة الملكية الخاصة" هي الأخطر من بين المؤسسات التي ابتدعها الإنسان. هي اليوم واحدة من تلك المؤسسات التي نعتبر وجودها مفروغا منه. قلما يقف المرء للتأمل في دور هذه المؤسسة ـ القديمة قدم المجتمعات الإنسانية ـ في تسريع وتيرة التطور البشري.
عبر التاريخ، كانت الملكية الخاصة حجر الزاوية في الاستقرار الاجتماعي والسياسي. استقرار حق الملكية الخاصة في بلد من البلدان يجعل الناس شركاء في السيادة. يعزز مصلحتهم في استقرار النظام السياسي القائم لأنه ما يضمن صيانة هذا الحق. المجتمعات الأكثر توسعا في توزيع الملكية أكثر استقرارا، وأكثر محافظة لأن مواطنيها ينزعون للدفاع عن الوضع القائم. في المقابل، يعد غياب مفهوم الملكية الخاصة وصفة مضمونة للتوترات الاجتماعية والاضطرابات حيث لا يكون عند الغالبية ما يخشون فقده.
إن رسوخ مفهوم الملكية الخاصة في حياتنا أمر يتعين أن يثير دهشتنا. هذا المفهوم المؤسس قد يكون أكثر استقرارا في الوعي العام ونظام الحياة المعاصرة من مفهوم سيادة الدول نفسه. على سبيل المثال، حظر القانون الدولي في اتفاقية لاهاي (1899) العادات القديمة للجيوش الغازية في نهب ممتلكات الناس بعد احتلالها لأراضي أمم أخرى. معنى ذلك أن القانون الدولي يعامل حقوق الملكية للأفراد باعتبارها أكثر قداسة من حقوق السيادة للدول! قد يحدث أن تفقد الدولة سيادتها على إقليمها بالغزو والاحتلال، ولكن ذلك لا يعني فقدان الأفراد في الدولة المحتلة لأراضيهم وملكياتهم الخاصة!
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: كيف يجسدها "إيلون ماسك"؟ (3)
ما السر وراء قوة هذه المؤسسة؟ وما علاقتها بالرأسمالية؟
الحال أن مأسسة الملكية كانت خطوة كبرى تزامنت مع الانتقال من حياة الجمع والصيد والالتقاط إلى حياة الزراعة. أغلب الظن أن من عاشوا حياة الصيد لم يكن لديهم مفهوما محددا عن الملكية. الأدوات المطلوبة للصيد قليلة، والعمل يقوم به الجميع، والرزق يجري اقتسامه. الملكية الخاصة، في المقابل، مرتبطة بحياة الاستقرار والزراعة. هذه النوعية من الحياة احتاجت إلى تحديد ملكية الأشياء بصورة واضحة. هذا بيتي، وهذه أرضي، وذاك فأسي.. إلخ.
هذا المفهوم عن الملكية لا يجنب المجتمعات الصراع، وقد يتسبب في إشعالها. ذلك أن الملكية ترتب حتما تفاوتا بين البشر. ومن العجيب أن المنظر الأكبر للرأسمالية آدم سميث قد لاحظ هذا "الشر الكامن" ـ إن جاز التعبير ـ في فكرة الملكية. كتب في "ثروة الأمم" يقول: "أينما تكون الملكية الكبيرة يكون انعدام المساواة كبيرا.. إن الحكومة المدنية، التي يتم إقامتها لتأمين الملكية الخاصة، هي في الواقع مؤسسة من أجل الدفاع عن الأغنياء في مواجهة الفقراء.. أو الدفاع عن هؤلاء الذين لديهم بعض الملكية الخاصة، في مقابل أولئك الذين لا يملكون شيئا على الإطلاق".
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: أصل الفكرة (2)
إن ارتباط الملكية بظهور الدولة كمنظومة سياسية يعد فكرة محورية كشف عنها فلاسفة العقد الاجتماعي. أشار جون لوك، فيلسوف الليبرالية الأهم، إلى أن "السبب في تكوين الأفراد للمجتمع هو رغبتهم في الحفاظ على الملكية". هذه نقطة محورية في فلسفة لوك. هو يعتبر أن حق الملكية هو الحق المؤسس لكافة الحقوق الأخرى. هو حق طبيعي لا يمكن انتزاعه من الفرد. أول ـ وأهم ـ مجال يمارس فيه الإنسان هذا الحق هو جسده الذي لا يمكن أن ينازعه في ملكيته له أي فرد أو جماعة أو مؤسسة.
لقد أدرك فلاسفة العقد الاجتماعي أن الحق في الملكية الخاصة ليس مؤسسا على القانون أو قوة الدولة. بل إن القانون وضع من أجل حماية هذا الحق. أشار لوك بوضوح إلى أن الناس أقاموا الحكومات، وتنازلوا لها عن بعض الحقوق، من أجل ضمان تمتعهم بحقهم الأصيل في الملكية، الذي يعد الأصل في كل الحقوق الأخرى.
انطلاقا من هذا الأساس الفلسفي، قدم آدم سميث أفكاره الرئيسية حول النظام الرأسمالي. اعتبر أن ملكية الإنسان لناتج عمله تمثل أصل كل الحقوق الأخرى. الرأسمالية تفترض أن الملكية الخاصة تشجع الإنسان على تطوير ما لديه من رأس مال، ومن ثم توليد المزيد من الثروة.
رأس المال مفهوم أكثر تركيبا من مجرد الملكية. هو مفهوم يشير إلى الأصول التي يتم مراكمتها لأغراض إنتاجية. كلما زاد تراكم رأس المال، يمكن تحقيق مزيد من التخصص في العمل. هذا التخصص ـ كما شرح سميث ـ هو أصل توليد القيمة المضافة والثروة.
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)
كيف تحولت الملكية إلى رأس مال؟
أصل كلمة رأس المال يعود ـ في اللغة اللاتينية ـ إلى الماشية. كانت هذه مصدرا مهما للثروة حتى العصور الوسطى. هي أيضا ثروة منقولة، يمكن إحصاء حجمها، ومبادلتها بسهولة. الأهم هو أن بالإمكان الحصول منها على ثروة إضافية (عبر التوالد)، وبالتالي يتولد فائض القيمة.
كأغلب المنظومات التي ابتدعها الإنسان، فإن نظام الملكية تحول إلى "نظام تمثيلي" أو رمزي يستخدم العقود والسندات للإشارة إلى الممتلكات المادية. البعض يربط بين ظهور الكتابة ـ أهم "منظومة تمثيلية" اخترعها البشر ـ وبين الحاجة إلى تثبيت الملكية وتدوين المعاملات الخاصة بها. اختراع النقود يتأسس بدوره على افتراض استقرار الملكية الخاصة، فالنقود ليست ـ في واقع الأمر ـ سوى صكوك للملكية.
تحول الملكية إلى "نظام رمزي" (من خلال العقود وسندات الملكية) كان خطوة جوهرية في تحويل الأصول إلى رأس مال قابل للاستبدال والتداول والبيع والمشاركة، أي لوسيلة لتوليد الثروة. في المنظومة الرأسمالية، البيت ليس مجرد مكان للمأوى. البيت هو أصل يمكن استخدامه للحصول على الائتمان، وبالتالي الاستثمار.
يرى البعض أن سر نجاح الرأسمالية في الغرب يرجع إلى استقرار حقوق الملكية وتنظيمها في صورة قانونية تسهل استثمارها والاستفادة منها تجاريا، وذلك بخلاف الدول النامية التي فشلت في تحقيق هذا الأمر.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)