دوما في الغوطة الشرقية (أ ف ب)
دوما في الغوطة الشرقية (أ ف ب)

بقلم عبد الحفيظ شرف/

سورية هذه الأرض الخضراء الجميلة المتعددة الحضارات والثقافات والديانات والمذاهب المليئة بالخيرات والطبيعة الخلابة الجميلة التي بدون شك أثرت على التكوين النفسي والعقلي لأهل البلد الذين تميزوا على مدار التاريخ فأنتجوا حضارات تركت أثرا.

تحول هذا البلد الهادئ الجميل خلال السنوات السبع الماضية إلى أخطر مكان في العالم على حياة الأطفال وارتوت أرضه بدم ما يقارب من المليون إنسان من أهله. وتحولت هذه الأرض إلى ساحة معركة محلية وإقليمية ودولية وأصبحت سماؤها مسرحا لكل أشكال الطيران الحربي المتعدد الجنسيات.

حصل هذا بعد أن استعدى بشار الأسد شعبه وبدأ بحلوله الأمنية ضد مظاهرات سلمية خرجت لتطالب بالإصلاح وتغيير طبيعة النظام الأمنية التي انتهكت كل الحريات والخصوصيات للمواطنين. لم يستجب الأسد لطلبات شعبه المسالم واختار أن يعتقل ويسحل ويسجن ويقتل كل من خالفه ليحافظ على نظامه الأمني والطائفي.

قد تكون هذه المتاهة السورية الأكثر تعقيدا سياسيا وعسكريا من أي أزمة مرت في السنوات الخمسين الماضية

​​لقد كان الاختيار بسيط وواضح. كان الحق والعدالة إلى جانب المتظاهرين السلميين المحبين لبلدهم ضد نظام قاتل ومجرم وديكتاتور. ما هي إلا أشهر حتى نفذ بشار الأسد وعيده بتفجير المنطقة كلها بالأزمات. بدأ الأسد بإخراج مئات المعتقلين من السلفيين والجهاديين من سجونه وبدأت أجهزة مخابراته، كما أثبتت ذلك عدة شهادات من أقطاب النظام، بتوزيع السلاح الخفيف على الناس في مدن مثل درعا وحمص لتتحول التحركات السلمية إلى مسلحة حتى يبدأ بترويج سياسته عالميا وليقول للعالم إنه يحارب مسلحين ومخربين وإرهابيين. من هنا بدأ خلط الأوراق وتشويه المشهد العام.

بدأت المعارضة السورية تشكل هياكلها التنظيمية ومؤسساتها التي فشلت في جمع الطيف السوري متعدد المذاهب والقوميات والأديان وذلك بسبب تمركز التنظيمات والأحزاب الدينية التي كانت تعتقد أن بشار الأسد سيسقط خلال أشهر وأنهم سيحكمون سورية بعده مباشرة. وأدى ذلك إلى رفض تنظيمات مثل الإخوان المسلمين ومن يدور في فلك الإسلام السياسي تقديم أي تنازلات.

اقرأ للكاتب أيضا: شلال دم جديد في الغوطة الشرقية

تشكلت مؤسسات المعارضة على أساس هش بدون قواعد عامة توحد الجميع ما انعكس على التنظيمات المقاتلة على الأرض. فلكل مكون صغير في مؤسسات المعارضة علاقة سياسية مع حليف إقليمي وآخر دولي يدعمه ماليا وسياسيا، وكل فريق سياسي دعم فصيل أو عدة فصائل.

وفي أواخر عام 2012 تشكلت جبهة النصرة تحت قيادة الجولاني الذي كان مسجونا في سجون الأسد. وكانت هذه لحظة فارقة. دخل المتشددون ساحة المعركة واجتذبوا أشباههم من المتشددين والتكفيريين والمختلين من أنحاء العالم العربي من تونس والسعودية ودول الخليج ومصر وغيرها لينصروا الإسلام كما يزعمون.

وهنا ازداد التشويه عسكريا وسياسيا. فهناك جهات معارضة سياسية، وبغباء سياسي غير مسبوق، دعمت هذه المنظمات الإرهابية أو تغاضت عنها مما أعطى مصداقية أكبر لرواية النظام بأنه يحارب إرهابيين ومتشددين. وصل الأمر، إلى تسمية "صفحة الثورية السورية" إحدى الجمع بـ "جمعة كلنا جبهة النصرة". وهنا فقدت المعارضة السورية الكثير من الثقة عالميا ودوليا. بعد عدة أشهر ظهر تنظيم داعش واحتل جزء كبيرا من سورية وبدأ الإسلاميين بالسيطرة على الفصائل العسكرية ولعلك تجد هذا جليا في أسماء الفصائل فمن جيش الإسلام إلى فيلق الرحمن إلى لواء التوحيد وغيرها.

تشابكت على الأرض السورية الدول الاقليمية أيضا. أقحمت إيران حزب الله الإرهابي في المعركة ليشد من أزر النظام السوري عندما اقترب النظام من حافة الانهيار. ثم أقحمت ميليشياتها الطائفية العراقية لتحول المعركة إلى حرب طائفية.

اختارت تركيا وقطر اختارت الوقوف خلف جماعات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين وبعض الفصائل الأكثر تشددا بينما اختارت السعودية دعم العلمانيين وممثلي القبائل سياسيا والسلفيين لتدعهم عسكريا وماليا كجيش الإسلام المنتشر على تخوم دمشق. وكل هذا ساهم في تشويه المشهد أكثر وأكثر.

أقحمت إيران حزب الله الإرهابي في المعركة ليشد من أزر النظام السوري عندما اقترب النظام من حافة الانهيار

​​ثم دخلت روسيا على الخط لمساندة نظام الأسد وحلفائه عسكريا ولتتلاعب سياسيا من خلال التصريحات والمؤتمرات التي لا تثمن ولا تغني.

من جهتها، دعمت أمريكا الجيش الحر بداية، لكن فصائله سرقوا السلاح وبددوا الأموال التي صرفت عليهم بدون أدنى مسؤولية فلجأت إلى دعم الأكراد بالمال والسلاح وساندتهم سياسيا وعسكريا.

وتحالفت تركيا، التي تعادي بشار الأسد، مع روسيا التي تدخلت عسكريا للإبقاء على الأسد. وهو تحالف غريب من نوعه وما يقف خلف هذا التحالف هو موقف روسيا من الأكراد. أما الولايات المتحدة حليفة تركيا في الناتو ساندت الأكراد في محاربة الإرهاب بالرغم من العداء القومي التركي للأكراد حتى أن هذا الاختلاف اقترب من مرحلة المواجهة المباشرة في منبج.

اقرأ للكاتب أيضا: عفرين وما بعدها

أما السعودية التي تريد إنهاء الأسد، فتحارب الفصائل المدعومة قطريا وتضيق الخناق عليها بالرغم من وحدة التوجه السياسي بين قطر والسعودية في سورية. أما إيران زعيمة محور الشر في المنطقة والتي ساندت الأسد عسكريا تتحالف مع تركيا عدو الأسد ضد الأكراد في سورية والعراق.

أما الفصائل العسكرية على الأرض فتعكس رؤية مموليها وحلفائها وكذلك تتماشى قوى المعارضة السورية المختلفة مع رغبات الممول والداعم السياسي بعيدا عن مصلحة الشعب السوري في كثير من الأحيان، خصوصا الفصائل المقيمة في اسطنبول.

اختلطت الأوراق واختلف الحلفاء وتحالف الصديق مع العدو والصديق مع صديق العدو والعدو مع عدو العدو وهكذا.. حتى أنك لا تدري من مع من ومن ضد من؟ ولا شك لدي أن هذا يسعد النظام السوري الذي يسعى إلى مزيد من الخلافات الإقليمية والدولية لأنه يعتقد أنها تطيل من عمره الافتراضي وسيسعى دائما الى إزكاء هذه الخلافات.

هذه المتاهة السورية قد تكون الأكثر تعقيدا سياسيا وعسكريا من أي أزمة مرت في السنوات الخمسين الماضية. إلا أن حلها، وما زلت أعتقد أنه بسيط، يكون باتفاق الدول العظمى يتبعه توافق إقليمي ثم محلي لإيقاف شلال الدم السوري. ولا شك أن الدولة الوحيدة المعول عليها هي الولايات المتحدة التي تستطيع بقوتها العسكرية وثقلها العالمي أن تنهي هذه الخلافات بالذات في هذا التوقيت بعد أن انتهت داعش عسكريا في سورية والعراق مما سيفتح الطريق للتركيز على النظام السوري وتنفيذ تغيير حقيقي في صلب تركيبة النظام ورأسه.

ـــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.