خلال زيارة محمد بن سلمان لأميركا العام الماضي كولي لولي العهد (أرشيف)
خلال زيارة محمد بن سلمان لأميركا العام الماضي كولي لولي العهد (أرشيف)

بقلم نيرڤانا محمود/

شرع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في أولى جولاته الخارجية كولي للعهد التي ستجذب الانتباه إلى المملكة وقيادتها الجديدة. من الضروري فهم أن هذه القيادة الجديدة في السعودية هي عنصر أساسي في سياق شرق أوسط حديث أكثر اتساعا وأشد أهمية.

ففي ظل التطورات المتلاحقة لواقع الشرق الأوسط، وفي خضم التعقيدات المتفاقمة والتصريحات المتناقضة، هناك ثلاثة معسكرات تهيمن على المشهد الإقليمي: معسكر إسلاموي إيراني ومعسكر إسلاموي تركي ومعسكر متفرد ثلاثي التعاون مكون من السعودية ومصر والإمارات.

ثالوث التعاون هذا نشأ في أعقاب الربيع العربي، ويتحد فيه قادة دول ثلاث لتقديم نموذج جديد للدولة في المنطقة يختلف عن سابقيه من نماذج الحكومات القمعية السابقة. ولدى التحالف الجديد خطة طموحة لمواجهة الإسلام السياسي لدى المعسكرين الإيراني والتركي.

يحتاج صناع القرار في واشنطن إلى إدراك هذا الواقع الإقليمي الجديد، فزمن الثورات والربيع انتهى، وكذلك أيام الأوتوقراطيات الفوضوية

​​كما كتبت في السابق، الثلاثي الجديد يرى أن الإسلام السياسي عدو مشترك لا يهدف فقط إلى تقويض سلطاتهم كقادة فحسب، بل يهدف إلى تقويض فكرة الوطن أيضا. نموذج الدولة الوطنية نشأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية ونهاية عصر الاستعمار، وأي أفكار وجودية أخرى تتجاوز فكرة الوطنية تشكل تهديدا خطيرا، والمثال الأبرز على ذلك الأيديولوجية التي أرسا أسسها نظام الملالي في إيران والطموحات الإقليمية للرئيس التركي أردوغان.

ورغم أن التنافس الإيراني ـ السعودي المتواصل منذ ثورة 1979 في إيران ليس جديدا، فالجديد هو التعاون بين الدول الثلاث لتشكيل وحدة تحارب أسس الإسلام السياسي. وهذا يعد تحولا من الحروب الخاصة التي كان يختارها كل بلد على حدة.

اقرأ للكاتبة أيضا: مصر، تركيا، وسياسة الغاز

فالسعودية ظلت تعتقد لعقود بأن الطريقة الأمثل لمواجهة الإسلاموية الشيعية هي تحصين الإسلاموية السنية وتعزيزها. وكانت نتائج هذه السياسة عكسية في مختلف أرجاء المنطقة، من العراق إلى سورية إلى اليمن. وبعد مواجهتها تدخلات إيرانية غاشمة في المنطقة بالتزامن مع هجمات إرهابية شرسة لتنظيم داعش وصلت حتى الداخل السعودي، أدركت المملكة أن كل أشكال الإسلاموية عدو ينبغي مواجهته. وإلى جانب ظهور النزعة المناهضة للإسلاموية لدى عبد الفتاح السيسي في مصر، انضمت القيادة الإماراتية كذلك إلى هذا الثلاثي لتعبيد الطريق من أجل المضي قدما ومن أجل الصمود.

هذه هي الأيام الأولى، والمعركة ضد الإسلاموية تجري في إقليم مليء بالتعقيدات والمتناقضات والاضطرابات. على مدى عقود، ربحت الإسلاموية معارك في جبهات عدة برعاية من طهران وأنقرة والدوحة. لكل من تلك العواصم أجندتها الخاصة ولديها الاستعداد لدعم لتلك الجماعات إلى أقصى الحدود، علاوة على ذلك لاقى كثير من الجماعات الإسلاموية آذانا متعاطفة في العواصم الغربية، متنكرة في رداء دعم حقوق الإنسان ودعم الديموقراطية في مواجهة الأنظمة السلطوية العربية.

وعلى ذلك، قرر الثلاثي اتباع توجه تعاوني براغماتي يرفض الانجرار العاطفي وراء الأحلام الكبرى. أيام الوحدة الهزلية، مثل جمهورية عبد الناصر المتحدة بين مصر وسورية ولت، وكذلك ذهبت أدراج الرياح أيام نموذج الرجل الواحد المهيمن. فلم تعد لدى الثلاثي رغبة في تكرار نماذج صدام والقذافي، فقيادات الدول الثلاث الحالية تعرف حدود قدراتها، وعلى نقيض الحكام المستبدين في الماضي العربي، هم غير راغبين في خوض مغامرات كبرى.

محاربة الأنظمة الإسلاموية بلا هوادة هو على الأرجح السبيل الوحيد لإقناع الأوتوقراطيين العرب بتخفيف قبضتهم على السلطة

​​الاختبار الأول لهذا الثلاثي كان الأزمة القطرية. فبعد مقاطعة الدوحة واتهام الدولة الخليجية الصغيرة بدعم جماعات إسلاموية، توقع كثير من المحللين تفكك معسكر المقاطعة. تكهن كثيرون بأن الهوية الخليجية ستتغلب على الخلافات السياسية وتترك مصر وحيدة ضد قطر. المفاجأة كانت أن معسكر المقاطعة، وبشكل أساسي السعودية والإمارات، لا يزال متحدا مع مصر ومقاوما الضغوط لحل الأزمة مع قطر.

يحتاج صناع القرار في واشنطن إلى إدراك هذا الواقع الإقليمي الجديد، فزمن الثورات والربيع انتهى، وكذلك أيام الأوتوقراطيات الفوضوية. الجيل الجديد من الأوتوقراطيين العرب أذكياء ومتحدون سويا في صراع البقاء وهم مستعدون الآن لمواجهة أعدائهم الإسلامويين. هذا تغير مهم على الولايات المتحدة أن تأخذه بعين الاعتبار.

اقرأ للكاتبة أيضا: هل يستطيع الرئيس السيسي تجميد الحياة السياسية في مصر؟

الخوض في مصالح الولايات المتحدة ومبادئها في الشرق الأوسط لطالما كان مهمة معقدة وشائكة. فمن أفغانستان إلى العراق فشلت محاولات الولايات المتحدة للحصول على دعم الإسلاميين وولائهم، ولم تنجح مساعيها لترويض النظام الإيراني، وحتى النموذج الديموقراطي في تركيا أفسده رئيس تركي، وأصبح بشكل متزايد أكثر عداء تجاه الولايات المتحدة. لقد جادل الخبراء في واشنطن في أن الديموقراطية يمكنها ترويض الإسلاموية. وهذا نموذج للتفكير المنغلق الساذج للنخبة في واشنطن، والدليل الحاسم على ذلك هو الرئيس المستبد من مواربة أردوغان.

ورغم ذلك، هناك فرصة حقيقية أمام الولايات المتحدة كي تجدد سياساتها في المنطقة عن طريق دعم الثلاثي السعودي المصري الإماراتي من خلال التعهد بأخذ موقف حاسم ضد الطموحات التركية والإيرانية، مع استمرارها في الضغط من أجل إصلاحات ديموقراطية.

محاربة الأنظمة الإسلاموية بلا هوادة هو على الأرجح السبيل الوحيد لإقناع الأوتوقراطيين العرب بتخفيف قبضتهم على السلطة وتبني الديموقراطية وحقوق الإنسان. ولذا فإن زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة فرصة ثمينة للعمل من أجل إنقاذ المنطقة من تعاساتها.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.