الأسد وحيدا بين بوتين وجنرالاته (أرشيف)
الأسد وحيدا بين بوتين وجنرالاته (أرشيف)

بقلم حسين عبد الحسين/

لخصت موفدة الولايات المتحدة الدائمة إلى الأمم المتحدة نيكي هايلي عبثية التعاطي مع الطغاة بتوجهها إلى نظيرها الروسي بالقول إنه إذا كانت روسيا تعتقد أن العالم لا ينقطع عن انتقادها، فالأحرى بموسكو أن تتوقف عن استخدام السلاح الكيماوي لتصفية معارضيها حول العالم، وأن تتوقف عن دعم الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لا ينفك عن قصف معارضيه بأسلحة كيماوية.

نموذج الحكم الذي يقدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويحاول تعميمه دوليا، ويسعى لحماية كل الأنظمة التي تعمل بموجبه، هو نموذج بسيط يقوم على استخدام العنف المفرط للبقاء في الحكم ولحماية الأزلام والمنتفعين. في بلاد بوتين والأسد، ومعهما "مرشد الثورة" الإيراني علي خامنئي، عملية الحكم بسيطة وقائمة على حكم الأقوى.

حتى في العلاقة بينهم، يتعامل الأقوى مع الأضعف بتكبر وعنجهية، فصور لقاءات بوتين والأسد يندر أن تخلو من مشاهد الإذلال الذي يفرضه الأول على الثاني: مرة يستعرض بوتين وجنرالاته الأسد وحيدا في سوتشي، ومرة يحط بوتين في قاعدته العسكرية في سورية، وعندما يحاول الأسد مرافقته إلى باب الطائرة، حسب الأعراف الديبلوماسية بين الدول، يمسك ضابط روسي بذراع الأسد ويمنعه من اللحاق بالرئيس الروسي.

على الرغم عن ثرثرة أنظمة بوتين وخامنئي والأسد عن ضرورة احترام سيادة الدول، يمعن كل من الثلاثة باختراق كل القوانين الدولية

​​هذه الأنظمة تعيش بموجب شريعة الغاب بين بعضها البعض، وتفرض الشريعة نفسها على مواطنيها، وتمارس عنفا مفرطا على معارضيها أينما كانوا في أنحاء المعمورة، لتقديمهم عبرة لكل من تسوغ له نفسه التمادي على الطاغية، أو عصابته، أو حتى صورته.

اقرأ للكاتب أيضا: ماذا بقي من سيادة الأسد؟

لم تكن محاولة بوتين اغتيال عميل الاستخبارات الروسي السابق سيرغي سكريبال الأولى من نوعها. في العام 2006، سمم عملاء بوتين في لندن الروسي ألكسندر ليتيفنكو بمادة البلونيوم. وبين الحادثتين، تعرض المعارضون الروس في لندن وباريس وبرلين، وحتى في واشنطن ونيويورك، إلى سلسلة من الأحداث الغامضة التي أدت إلى وفاتهم.

ومثل بوتين، يواصل نظام "الجمهورية الإسلامية" سلسلة اغتيالاته التي بدأها منذ اندلاع "الثورة" في العام 1979، منذ محاولته اغتيال شاهبور بختيار، رئيس حكومة إيران قبل الثورة، في باريس. فشلت المحاولة الإيرانية الاولى واعتقلت السلطات الفرنسية مدبرها، وهو اللبناني أنيس النقاش، الذي سبق أن شارك الإرهابي كارلوس في عملية اختطاف وزراء نفط أوبيك في فيينا منتصف السبعينات. والنقاش يعزو إلى نفسه فكرة إنشاء وتسمية "الحرس الثوري الإيراني"، لحماية الثورة الفتية من إمكانية ردة فعل ضباط الشاه بعد الثورة.

صور لقاءات بوتين والأسد يندر أن تخلو من مشاهد الإذلال الذي يفرضه الأول على الثاني

​​واظبت طهران على محاولة اغتيال بختيار حتى نالت منه في العام 1991، وتم اعتقال أحد المنفذين وسجنه 18 عاما. بعدها عاد القاتل إلى إيران، وتم استقباله استقبال الأبطال.

ومطلع العقد الحالي، حاولت إيران اغتيال سفير السعودية في واشنطن، وزير الخارجية الحالي، عادل الجبير. وفي نيسان/أبريل الماضي، اغتال عملاء "وزارة الاستخبارات" الإيرانية المعارض البريطاني من أصل إيراني سعيد كريميان، أثناء زيارة كان يقوم بها إلى اسطنبول.

اقرأ للكاتب أيضا: إيران جمهورية الكذب

أما الأسد، ربيب الكيماوي بوتين ونظام الاغتيالات الإسلامي، فهو ـ ووالده الراحل حافظ الأسد من قبله ـ مارسا مزيجا من الاثنين.

في لبنان، يحفظ اللبنانيون عن ظهر قلب لائحة ضحايا اغتيالات نظام الأسد، من زعيم الدروز كمال جنبلاط والصحافي سليم اللوزي، إلى رئيس الجمهورية المنتخب بشير الجميل، ورئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، والصحافي سمير قصير، والنواب بيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم، والضباط فرنسوا الحاج ووسام عيد ووسام الحسن.

أما عندما يتوقف الأسد عن اغتيالاته في لبنان، فهو يفعل ذلك لانشغاله بقصف مواطنيه بالأسلحة الكيماوية، كما في هجومي غوطة دمشق وخان شيخون، وبينهما وبعدهما سلسلة من الهجمات بالغازات المسموحة للاستخدام المدني ولكن المحظورة دوليا في الاستخدام العسكري.

على الرغم عن ثرثرة أنظمة بوتين وخامنئي والأسد عن ضرورة احترام سيادة الدول، يمعن كل من الثلاثة باختراق كل القوانين الدولية، من قتل معارضيهم المقيمين حول العالم، إلى استخدام الكيماوي، المحظور منه وغير المحظور، للقضاء على الخصوم.

هي أنظمة ظلامية قاتلة، تغتال بالكيماوي ومن دونه. ثم تتحدث عن عظمة شعوبها، أو ما تبقى من هذه الشعوب المغلوب على أمرها تحت حكم قبضات حديدية تحمي الفساد والمجرمين وتطال الأبرياء والمنفيين.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.