في أحد عروض الأزياء في مدينة جدة (أ ف ب)
في أحد عروض الأزياء في مدينة جدة (أ ف ب)

بقلم منصور الحاج/

"عرض للأزياء في مدينة الرسول؟" وسم استنكاري على موقع "تويتر" أطلقه محتجون على عرض الأزياء الذي أقيم في المدينة المنورة ونشرت عنه قناة "الآن" تقريرا أعربت فيه عارضات ومصممات سعوديات عن سعادتهن بالتجربة ورغبتهن في التطور والإبداع في هذا المجال.

وفي الأشهر القليلة الماضية، سجل الآلاف اعتراضهم في وسائل التواصل الاجتماعي على الحفلات الغنائية التي سمحت السلطات في السعودية بإقامتها وعلى قرار السماح للنساء بحضور مباريات كرة القدم وعلى قرار الموافقة بفتح دور للسينما وعلى منح المرأة الحق في قيادة السيارات وعلى تنظيم السلطات لأول ماراثون خاص بالنساء في البلاد.

ويستهجن أولئك المعترضون الذين نصبوا أنفسهم "حراسا للفضيلة" مشاركة المرأة في تلك البرامج والفعاليات والأنشطة ويرون فيها مخالفة لتعاليم الشريعة الإسلامية بحسب فهمهم لها. وتلخص اعتراضاتهم الجدل القائم بشأن المرأة بين من يرون أنها كاملة الأهلية ومن حقها الاختيار وعمل ما تراه مناسبا بغض النظر عن الأطر والتعاليم الدينية والاجتماعية والعادات والتقاليد وبين من يرونها ناقصة عقل ودين وينظرون إليها كعبء وعار وعورة.

إن المعركة التي يخوضها "حراس الفضيلة" ضد الحقوق والحريات معركة خاسرة وسباحة ضد التيار

​​​​إن الجدل بشأن حقوق المرأة الذي يتم الترويج له على أنه صراع بين تيار المحافظين الذين يدعون أنهم ينشدون الحفاظ على عفة المرأة وقدرها مكانتها وبين التيار الليبرالي الذي يتهم زورا وبهتانا بالسعي لتغريب المرأة وتعريتها والمتاجرة بها ما هو إلا جدل مصطنع لا وجود له إلا في عقول وتصورات "حراس الفضيلة" الذين منحوا أنفسهم الحق في وضع القوانين والشروط وتحديد المسموح والمرفوض وما هو لائق أو غير لائق وما يحل وما يحرم في كل ما يتعلق بالمرأة.

إنه في الحقيقة صراع وهمي يراد منه إقناع المرأة بأن هناك من يتربص بها ويسعى لاستغلالها وإبعادها عن دينها وتغيير طبيعتها والعبث بالدور الذي خلقت لتأديته. وللترويج لذلك يوظف "حراس الفضيلة" التراث الديني فيختارون من النصوص ما يناسب أهواءهم الذكورية للتحكم بالمرأة باسم الدين، فبرروا فرض الحجاب عليها حتى لا تفتن الرجال بجمالها، وحرموا عليها مخالطة الرجال حتى لا يطمع من في قلبه مرض، وحكموا عليها بنقصان العقل والدين لأنها بحسب زعمهم "خلقت من ضلع أعوج" ولأن دم الحيض يمنعها عن أداء بعض الشعائر الدينية.

اقرأ للكاتب أيضا: دور التراث الديني والعادات الاجتماعية في تشويه القيم والمبادئ

أعطوها نصف ما يعطى الذكور من الميراث، وجلعوا شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد، وأحلوا للرجال أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع فيما أمروها بالبقاء في البيت وطاعة زوجها الذي منحوه حق تأديبها بالهجر في المضجع وبالضرب أيضا. وعلى الرغم من إصرارهم على نقصان عقلها ودينها، إلا أنهم ساووا بينها وبين الذكور في العقوبات، فأمر الشرع بجلد الزاني والزانية، وقطع يد السارق والسارقة، والقصاص من القاتل والقاتلة، وقتل الساحر والساحرة.

ويطالب "حراس الفضيلة" المرأة بالالتزام بـ "الأوامر الربانية" المطابقة تماما لأهوائهم الذكورية وعادتهم وتقاليدهم القبلية، وأمروها بالصبر واحتساب الأجر والمثوبة من الله في الدنيا والآخرة وما أدراك ما أعد الله للذكور والإناث في الآخرة؟ فبالإضافة إلى أنهار اللبن والعسل والخمر سيحظى الرجال بالحور العين اللواتي وصفن بأنهن فائقات الجمال، أما النساء اللواتي حرمن من أن ينكحن ما طاب لهن من الرجال فلم يعدهن الله بنسخة ذكورية من الحور جزاء على صبرهن واحتسابهن.

ويرفض "حراس الفضيلة" الأطروحات والمحاولات التي تقدم تفسيرات عصرية للنصوص الدينية والتراث الإسلامي تراعي الفوارق واختلاف الزمان والمكان في تأويل النصوص بحيث تتلاءم مع العصر وتتماشى مع ما وصل إليه العالم فيما يتعلق بحقوق الإنسان والنساء على وجه التحديد. ويرى "حراس الفضيلة" الاجتهادات التي تساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات وتمنع التمييز بناء على الجنس فيما يتعلق بالحريات الشخصية والوظائف والأجور والتخصصات والمناصب "مؤامرات" تهدف إلى "علمنة" الإسلام من أجل القضاء عليه وتفريغه من قيمه وتعالميه.

يتهم "حراس الفضيلة" كل من يشكك في مواقفهم وتفسيراتهم المتعلقة بالمرأة وحقوقها بأنه ليبرالي يسعى إلى إفساد المرأة وجرها إلى مهاوي الرذيلة والانحطاط. إنهم في الحقيقة يكذبون في تصوير الليبراليين على أنهم نسخة معاكسة لهم لا هم لهم سوى نزع حجاب المرأة المسلمة ودفعها لمخالطة الرجال والتمرد على الأسرة والدين والمجتمع والتنكر للعادات والتقاليد.

ويحرص "حراس الفضيلة" على تكفير الليبراليين ويلجؤون إلى الكذب لتشويه صورتهم من أجل تنفير الناس من أفكارهم التي تدعو في جوهرها إلى احترام الحريات الشخصية وتحفظ حق الجميع في اختيار نمط الحياة الذي يرونه مناسبا وتساوي بين جميع شرائح المجتمع بغض النظر عن المعتقد أو اللون أو الجنس. وبعكس من يدعون أنهم ظل الله في الأرض والناطقون باسمه، لا يفرض الليبراليون شيئا على أحد، ويحترمون خيارات البشر لأنماط الحياة التي تناسبهم. ويؤمن الليبراليون بحرية الاعتقاد وحرية التعبير ويدافعون عن حقوق الأقليات والمضطهدين في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية.

يتهم "حراس الفضيلة" كل من يشكك في مواقفهم وتفسيراتهم المتعلقة بالمرأة وحقوقها بأنه ليبرالي يسعى إلى إفساد المرأة

​​​​يخوض "حراس الفضيلة" حربا خاسرة ضد المرأة وحقوقها وقد فشلت كل أساليبهم غير الأخلاقية في التحكم بالمرأة وإخراس أصوات المطالبات بحقوقهن الإنسانية اللواتي يرفضن الخضوع لوصاية الذكور عليهن ويزداد وعيهن يوما بعد يوم بفضل الإنترنت الذي سهل عملية الوصول إلى المعلومة وفضح زيف شعاراتهم وكشف حقيقة رغبتهم في السيطرة على المرأة وحرصهم على تجهيلها لإبقائها تحت رحمتهم.

لم تعد صرخات "حراس الفضيلة" وبكائياتهم التي تعلوا كلما طالبت أو حصلت المرأة على حق من حقوقها قادرة على حشد الجماهير على الأرض فأصبحوا يستجدون الجهلاء في وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الأوسمة والتعليقات كـ "عرض للأزياء في مدينة الرسول" و"حفلة تامر حسني بالسعودية" وغيرها من الأوسمة التي تعارض قيادة المرأة للسيارة وقرار إنشاء دور السينما وترفض مطالب إسقاط نظام الولاية.

اقرأ للكاتب أيضا: قراءة في الجدل بشأن فكرة "تدويل الحج"

وفيما تخفت أصوات "حراس الفضيلة" على أرض الواقع ويقل مناصريهم، تعلوا أصوات مضطهدات سابقات قررن التحرر من القيود والأغلال التي كانت تقيدهم باسم الدين والعرف والتقاليد والشرف، فخلعت آلاف الإيرانيات الحجاب احتجاجا على نظام الملالي الذي يفرض على النساء ارتداء الحجاب ويحاسب اللواتي لا يرتدينه.

كما خرجت السعودية غادة في فيديو على موقع "يوتيوب" تحكي فيه الأسباب التي دفعتها لخلع الحجاب وترك الإسلام، وشاركت العراقية أمل الياسري في برنامج "عراة وخائفون" على قناة "ديسكفري" الأميركية من أجل تقديم صورة مختلفة للنساء المسلمات بحسب تعبيرها وتحدي الصورة النمطية السائدة.

ونشرت عشرات المسلمات قصصا حكين فيها عن حوادث التحرش الجنسي التي تعرضن لها خلال أدائهن للشعائر الدينية في المشاعر المقدسة كالشابة الباكستانية سابيكا خان والكاتبة منى الطحاوي وكثيرات غيرهن قررن بشجاعة التمرد على الواقع واختيار نمط الحياة الذي يروق لهن وتشجيع غيرهن على التعبير عن معاناتهن.

إن المعركة التي يخوضها "حراس الفضيلة" ضد الحقوق والحريات معركة خاسرة وسباحة ضد التيار وجهود رجعية تحاول عبثا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لأنها ببساطة تسير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ وتتحدى قوانين الطبيعة والتطور الاجتماعي.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.