وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل (أ ف ب)
وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل (أ ف ب)

بقلم حازم الأمين/

الانتخابات في لبنان مناسبة لاستنفار أبشع ما لدى الجماعات الأهلية من غرائز، ذاك أن الاقتراع لا ينطوي على احتساب مصالح هذه الجماعات بقدر ما هو تظهير لنزق جماعي تسابق فيه كل طائفة الطائفة الأخرى على ما هو أقل ذكاء وأخلاقا وكرما.

في هذا السياق يمكن استحضار تصريحات وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل حول تقدمه باقتراح قانون يسمح فيه للمرأة اللبنانية المتزوجة من غير لبناني أن تمنح الجنسية اللبنانية لأبنائها، شرط ألا يكون زوجها من دول الجوار، وتحديدا ألا يكون سوريا أو فلسطينيا. فاقتراح القانون هذا، إلى عنصريته، واضح في مخاطبته ضائقة الجماعة المسيحية اللبنانية، ومن المرجح على كل حال أن يكون قد لاقى استجابة في هذه الأوساط.

لكن الأمر لا يقتصر صفاقة مشروع قانون عنصري قدم في لحظة انتخابية، فالمناسبة كانت فرصة لأن تكشف كل جماعة عن بضاعتها. حزب الله أبلغ الناخبين الشيعة أن من ينتخب غيره يكون قد اقترع لـ "داعش" أو لـ "النصرة"، وقال الأمين العام للحزب حسن نصرالله مخاطبا الناخبين، إن من يذهب إلى صندوق الاقتراع عليه أن يعلم أنه لا يقترع لمرشح بعينه، إنما يقترع للحزب الذي حماه من الأعداء. ولا يخفى على أحد من هم أعداء الحزب من اللبنانيين. ومن المرجح أيضا أن يكون هذا الكلام قد لاقى استجابة في أوساط الناخبين الشيعة.

إن المصلحة اللبنانية الحقيقية تقضي بعدم خوض الانتخابات، فهذا لن يحسن ما نحن فيه، إلا أنه سيجنبنا مزيدا من الانحدار نحو هاوياتنا الكثيرة

​​تيار المستقبل واجه صعوبة في تظهير ظلامة السنة اللبنانيين في خطابه الانتخابي، على رغم أن لدى هذه الجماعة الأهلية ما يفوق غيرها من ظلامات، ليس أقلها تمثيل "المستقبل" لها، فراح يستحضر ظلامات صغرى عساها تساعده في "شد العصب المذهبي"، وهو وجد في تبنيه المتأخر لقصة الفنان زياد عيتاني فرصة لاستعراض طاقته على تبني قضية "الطائفة"، علما أن عيتاني قبع نحو ثلاثة أشهر في السجن من دون أن يحرك أحد ساكنا على رغم براءته الجلية.

اقرأ للكاتب أيضا: عن الجزيرة السورية المحاصرة بالأشرار

وجاءت فرصة عيتاني في اقتراب موعد الانتخابات النيابية، فهب المستقبل لنجدة الفنان، وخرج زياد من السجن، وتحولت قضية عادلة من نوع ما تعرض له مواطن لبناني من ظلم، على مرأى من كل الطوائف، إلى قضية مذهبية انتصرت فيها جماعة أهلية لأحد أفرادها، وضاعت فرصة تحويل الفضيحة إلى مناسبة محاسبة فعلية للذين يقفون خلفها، فهؤلاء أيضا وراءهم طوائفهم التي تحميهم.

لكن المفجع في مشهد الانتخابات اللبنانية هذه، هو أن كل جماعة تعترف لخصمها بحقه في أن يخرج من جعبته أبشع ما عنده. فباسيل حين اقترح مشروع قانونه العنصري لم يلق من خصومه الانتخابيين سواء في كانوا من طائفته أم من غيرها استنكارا، ولم يطرح أحد من الطبقة السياسية اللبنانية على نفسه مهمة سجاله أو استهوال ما اقترحه.

"السياسة" بمعناها اللبناني هي انخفاض المنسوب الأخلاقي في العلاقة بين الناخب والمنتخب

​​وحزب الله حين قال إن من ينتخب غيره يكون قد اقترع لـ "داعش"، لم يستدرج تيار المستقبل للرد عليه على رغم أن اللحظة الانتخابية تفترض أن الحزب حين قال ذلك قصد "المستقبل"، ذاك أن الأخير هو الخصم الانتخابي الرئيس للحزب في البقاع. هذا جزء مما تعترف الجماعات المذهبية لبعضها بعضا بحقه في استعماله.

أما المشهد الأكثر مأساوية في هذه الدوامة اللبنانية العقيمة، فيتمثل في أن أيا من القوى السياسية اللبناني الرئيسية، باستثناء "المستقبل"، لم يشعر أن قضية زياد عيتاني تعنيه. ثمة لبناني اعتدي على كرامته وعلى حريته وظهرت براءته على نحو لا يقبل الشك، ولم تشعر قوى سياسية كبرى في لبنان أنها معنية في قول كلمة عن هذه الفضيحة، باستثناء الجهة التي تمثل الطائفة التي ينتمي إليها.

اقرأ للكاتب أيضا: الغوطة ركام بين البعث و"جيش الإسلام"

صمت هائل ويدعو فعلا إلى الذعر، ذاك أن "السياسة" بمعناها اللبناني هي انخفاض المنسوب الأخلاقي في العلاقة بين الناخب والمنتخب، وهي في تقدم المصلحة والغريزة على قيم من المفترض أن تكون الانتخابات فرصة لتنافسها.

وبما أن الانتخابات لن تجدد الحياة العامة، ولن تكون فرصة لإحداث تغيير يذكر في التمثيل، فما يبقى منها هو هذه المعاني دون غيرها. الانتخابات لن تحد من دور حزب الله في الحروب الأهلية الإقليمية، ولن تأتي لنا بقوانين تنصف المرأة طالما أن جبران باسيل يقدم الاعتبار المذهبي على الاعتبار الإنساني والمدني، وهي لن تحمينا من مصائر تشبه مصير زياد عيتاني إلا إذا كان وراءنا طائفة تضع حدا لقدرة الطائفة الأخرى على إيذائنا.

وبهذا المعنى فإن المصلحة اللبنانية الحقيقية تقضي بعدم خوض هذه التجربة، فهذا لن يحسن ما نحن فيه، إلا أنه سيجنبنا مزيدا من الانحدار نحو هاوياتنا الكثيرة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.