الغرفة الداخلية في كنيسة القيامة في القدس (أ ف ب)
الغرفة الداخلية في كنيسة القيامة في القدس (أ ف ب)

بقلم داود كتاب/

يواجه نحو 350 ألف مواطن فلسطيني في القدس مجموعة كبيرة من المشاكل والعقبات اليومية بسبب الأوضاع السياسية والحياتية التي آلت إليها أوضاع المدينة المقدسة. فقد أصبح المقدسيون عبر السنوات الخمسين الماضية "أيتاما سياسيين" لا توجد لهم أي صفة تمثيلية أو قدرة على تحقيق مصيرهم والدفاع الجماعي عن حقوقهم.

في فترة قصيرة نجح فيصل عبد القادر الحسيني في جمع شمل المقدسيين خلفه وشكل من خلال "بيت الشرق" مرجعية محددة للتعامل مع مشاكل وصعوبات الحياة للمقدسيين، إلا إن وفاة "أبو العبد" المفاجئة خلال وجوده في الكويت عام 2001 تركت فراغا سياسيا لم يستطع أي إنسان ملأه.

وعكس كل المدن والقرى الفلسطينية، فإن معاناة القدس مضاعفة بسبب غياب السيادة الفلسطينية وآليات العمل السياسي في المدينة. ففي حين جرت عدة انتخابات محلية (للبلديات والمجالس القروية) في جميع المدن الفلسطينية لم يصوت سكان القدس مرة لقيادات محلية تمثلهم وتتابع شؤونهم.

تقول إسرائيل إن هناك انتخابات لبلدية القدس الموحدة، ولكن غالبية المقدسيين كما بقية العالم لم يعترفوا بالضم الأحادي للقدس ولذلك لم يشارك سوى نسبة ضئيلة جدا في الانتخابات. وأهم ما في الأمر أنه منذ 1967 لم يشغل مواطن عربي فلسطيني واحد موقعا في المجلس البلدي فيما يسمى بالقدس الموحدة. وهذا يعني أن المقدسيين العرب غير ممثلين في أي هيئة إدارية أو سياسية تذكر.

تاريخ القدس مليء بفشل محاولات احتكار المدينة المقدسة لدى طرف أو جهة واحدة على حساب الآخرين

​​تعتبر القدس درة التاج لدى الشعب والقيادة الفلسطينية التي تطالب بأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدول الفلسطينية العتيدة، وترفض أي حلول لا تشمل القدس وخاصة البلدة القديمة منها حيث الأماكن المقدسة وخاصة الحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة وغيرها من الأماكن والمزارات الدينية والثقافية التاريخية.

المعاناة الفلسطينية في القدس تنعكس في العديد من الأمور. فهناك الصراع على الأرض ومحاولة وقف الاستيطان وتمكين المقدسيين من البناء وتطوير أراضيهم وأحيائهم. وتنعكس أيضا على المؤسسات حيث تستمر إسرائيل مستخدمة قانون الطوارئ في إغلاق بيت الشرق والغرف التجارية وحوالي 22 مؤسسة فلسطينية أخرى.

إن لب الصراع على القدس يجب أن يتركز على موضوع السيادة الفلسطينية وحق المقدسيين في تقرير مصيرهم. فرغم أهميته الرمزية فإن موضوع العاصمة هو أمر ثانوي إذا ما تمت مقارنته مع موضوع السيادة. فالتواصل الاجتماعي والاقتصادي والحياتي بين القدس وباقي المدن الفلسطينية سيتحقق فقط في حال وجود سيادة عربية على المدينة وليس من خلال التسميات، إذ تعتقد إسرائيل والإدارة الأميركية أن إلصاق لوحة عاصمة فلسطين على أي مكان ضمن محافظة القدس سيعتبر التعامل الأفضل مع هذا الاستحقاق الفلسطيني.

وهناك العديد من الدول في العالم التي لا تختار أهم مدنها لتكون العاصمة، بل تتشكل في تلك الدولة عاصمة تجارية وأخرى رسمية. فمثلا كبرى مدن الولايات المتحدة مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس ليست عواصم فيدرالية أو حتى ضمن الولاية الموجودة تلك المدن فيها.

فالأمر إذا لا يرتبط بموضوع العاصمة بقدر ما هو مرتبط بموضوع السيادة.

المطلوب أن يكون للمواطن الفلسطيني الساكن في القدس مرجعية سياسية ذات نفوذ وتأثير الأمر الذي يتطلب سيادة فلسطينية في القدس من دون أي معوقات أو تحديدات.

حتى انتهاء الاحتلال هناك ضرورة لدعم صمود المقدسيين، وهذا يتطلب استراتيجية شاملة يشترك فيها المقدسيون بشكل معمق ويتم وضع آليات قابلة للتطبيق مع إطار زمني واضح لتحقيق الحد الأدنى المطلوب لرفع معنويات المقدسيين المنهارة بسبب الجدار والإغلاقات والمضايقات اليومية التي يعاني منها سكان القدس الشرقية.

المطلوب في البحث عن مستقبل القدس هو إيجاد معادلة تضمن بقاء القدس مدينة مفتوحة

​​يجب تنفيذ الاستراتيجية المطلوبة على عدة مستويات لضمان نجاحها. فهي مطلب فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي وقد يكون أهم عناصر الصمود هو مبدأ شد الرحال للقدس الشريف ووضع زيارتها في مقام الحج الديني والسياسي. فكما قال في السابق ابن القدس فيصل الحسيني إن زيارة السجين ليست اعترافا بالسجان. فالفلسطينيون في المدينة المقدسة تواقون إلى إعادة اللحمة والتلاحم مع عمقهم العربي والإسلامي والدولي والزيارة للقدس توفر فوائد للطرفين فهي تدعم صمود المقدسيين وتوفر فرصة فريدة للزائر للتلاحم مع إحدى أهم مدن العالم. فالقدس مليئة بالتاريخ والحضارة والتراث وكل حجر فيها يحكي قصة ورواية تتطلب مجلدات لملئها.

من المؤكد أن الصراع في القدس ليس محصورا بموضوع واحد مثل أين يتم وضع شعار عاصمة فلسطين. إن الصراع الوجودي في القدس هو صراع للمستقبل وللحفاظ على المقدسات والحضارة. فالقدس أبت في الماضي وستستمر بالرفض بأن تكون ملكا لأي طرف على حساب الأطراف الأخرى.

فتاريخ القدس مليء بفشل محاولات احتكار المدينة المقدسة لدى طرف أو جهة واحدة على حساب الآخرين. المطلوب في البحث عن مستقبل القدس هو إيجاد معادلة تضمن بقاء القدس مدينة مفتوحة وفي نفس الوقت ضمان حق المقدسيين في تقرير مصيرهم الحر.

يوجد الآن في القدس فلسطينيون وإسرائيليون كما يوجد مسلمون ومسيحيون ويهود ومن لا يعتنق أي ديانة محددة. فهل في الأفق حل يضمن لكل تلك الفئات الوطنية والاثنية والدينية حقوقها الكاملة، وأهمها الحق بتقرير المصير والسيادة على أرضها وممتلكاتها. لقد أثبت المقدسيون في آب/أغسطس الماضي وفي شهر شباط/فبراير الحالي أن أي محاولة لتغيير الأمر الواقع للأماكن الدينية مرفوض وسيتم التصدي له شعبيا وبطرق غير عنيفة.

لقد آن الأوان لحوار جاد ومعمق لمستقبل القدس خارج محاولات الاحتكار والتهويد والسيطرة لطرف على الطرف الآخر.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.