بقلم فارس خشّان/
يستحق جميع من سوف تثبت مسؤوليته بتركيب ملف التعامل مع إسرائيل للفنان زياد عيتاني وآخرين، أوسع الأسباب التخفيفية، ذلك أن هذه الفئة من الأمنيين قد تخرجت من المدرسة السياسية اللبنانية التي تستسهل، كلما برز من يزعجها بفعله أو بقوله أو بتطلعاته، اتهامه بالخيانة أو التعامل مع العدو الذي تتوسع دائرته أو تضيق، بتبدل المعطيات والظروف.
ولو دققنا في مسار الحياة السياسية اللبنانية، منذ العام 1991 حتى اليوم، لتوهم البعض أن إسرائيل نجحت في تجنيد ثلثي الشعب اللبناني، ذلك أن تهمة العمالة الثابتة في الأدبيات السياسية، تنقلت تباعا من فئة إلى أخرى، بحسب تنقل الأهواء السياسية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان العماد ميشال عون، قبل توقيع اتفاق التفاهم مع الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، من كبار عملاء إسرائيل في لبنان قبل أن يصبح، وبكل بساطة بفعل هذا التفاهم، من أبرز وجوه المقاومة التاريخية.
وهذا يفيد بأن المفبركين هم أولاد شرعيون لهذه المدرسة اللبنانية، فالخائن هو كل من يضع نفسه في خانة الخصومة مع مصالح المنتمين إلى هذه المدرسة.
ولذلك، ليس غريبا أن يستقوي مخبر في جهاز أمني على جاره "غير المطواع"، بتدبيج إخبار ضده يفيد بأنه يتجسس لمصلحة إسرائيل، ولا أن يسارع جهاز أمني، يجهد للإقرار له بدور مؤسساتي فاعل، إلى التعاطي إيجابا مع شكوك مصطنعة تحوم حول شخصية معروفة في المجتمع. ولا أن تبادر أحزاب إلى تبني التهمة، لأنها تحتاجها لتثبيت صدقية اتهاماتها للناس جماعات وأفرادا، بالعمالة بهدف تطويعها.
اقرأ للكاتب أيضا: سورية: ثورة لفظتها الجغرافيا
ولا يمكن، في هذا السياق، التحدث بشكل مستقل عن وسائل الإعلام لأنها في الواقع اللبناني منابر دعائية لجهات سياسية سواء بالملكية المباشرة، أم بالتمويل، أم باستجداء الحماية.
وعلى الرغم من وفرة الحديث عن المجتمع المدني في لبنان، إلا أنه لحينه وبغالبية المتحركين تحت رايته، مجرد اسم إما لخواء وإما لباحثين عن شعار يعينهم على الانضمام إلى النادي السياسي.
وفي هذا الإطار، لم تسجل جهة واحدة تطلق على نفسها صفة المجتمع المدني أي تحرك ميداني يعنى بمواضيع مهمة تقلق المجتمع اللبناني ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، تصحيح أداء النظام الأمني اللبناني، إدخال إصلاحات لتوفير استقلالية السلطة القضائية، إزالة الغبن اللاحق بأبناء اللبنانيات المتزوجات من أجانب، وخلاف ذلك من المسائل الشائكة التي تقارب المأساة، في كثير من الأحيان.
ولم تتحرك مجموعات "المجتمع المدني" إلا لتسجيل احتجاجات ـ وكلها موسمية وأشبه بفقاقيع الصابون ـ تموضعت بمجملها على تخوم العمل السياسي، كمحاربة الفساد مثلا، متنافسة في ذلك مع أحزاب وقوى سياسية بدت أكثر قدرة على إسماع صوتها وأكثر تأثيرا في تصحيح بعض المسارات أو تجميدها.
وفي واقع الحال، إن المجتمع المدني الحقيقي في لبنان، هو مجتمع الآراء الحرة التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي.
ولولا هذه المواقع لما أمكن إيجاد وسائل ضغط على السلطات اللبنانية المختصة، حتى تطلب إعادة النظر في الأدلة المنسوبة إلى المسرحي زياد عيتاني، ولما أضحى ملفه بعد ثبوت الفبركة فضيحة مكتملة العناصر.
وإذا ما أكمل "مجتمع" مواقع التواصل الاجتماعي عمله، فإن إرادة اجتزاء المساءلة ستسقط بدورها حتى يصبح الحساب بحجم الفضيحة.
ولكن حتى لا يتكرر "سيناريو زياد عيتاني"، فإن الحساب الكامل، على أهميته، يبقى تدبيرا ناقصا إن لم يترافق مع إقفال مدرسة الاتهام السياسية اللبنانية.
وهذا يعني أنه يجب إسقاط منطق استسهال اتهام الخصوم بالعمالة على اعتبار أن العمالة مع العدو تبقى، في كل مكان وفي كل زمان، من أخطر التهم. وبالتالي، فهي أكثر التهم التي تحتاج إلى تدقيق، حتى قبل توجيه الشبهة.
وهنا تكمن مسؤولية القضاء عموما وقضاة النيابة العامة خصوصا.
اقرأ للكاتب أيضا: الفرنسيون و12 أيار/مايو المقبل
وكم يتمنى اللبنانيون، لو أن قضاة لبنان، بدل أن يسجلوا تحركات اعتراضية متصلة بمخصصاتهم ورواتبهم حصرا، يوسعون دائرة الاعتراض ليدافعوا عن دورهم الأساسي الذي يحتم عليهم أن يشكلوا صمام أمان للمجتمع فيحولوا دون تعرض الناس للمظلومية. ذلك أنه حان الوقت أن يتعاطى القضاة مع أنفسهم كرجال ونساء مؤتمنين على سلطة وليس مجرد موظفين مأخوذين براتب آخر الشهر.
ورفع المظلومية، في عصرنا هذا أصبح مهمة دقيقة. لأن المظلومية تقع منذ اللحظة الأولى لإعطاء مصداقية للشبهة على اعتبار أن وصول المعلومة، ولا سيما في مرحلة الصدمة، إلى الرأي العام يصيب المظلوم بلطخات يصعب تنظيفها مع الزمن، وتاليا إلغاء مفاعيلها التدميرية.
وفي هذا السياق، يعترف أحد قضاة النيابة العامة في لبنان، بأنه وجد نفسه مضطرا للادعاء على شخصية يعرف براءتها، لأنه تلقى أمرا تسلسليا بذلك، في وقت كان رئيسه يلبي، بتوجيه أمره، رغبة مرجعيته السياسية.
ويلاحظ المراقبون في لبنان أن الشخصية المظلومة بادعاء ظالم تبقى، بفعل الغرضية السياسية والتعميمات الواصلة إلى الرأي العام عبر وسائل الإعلام ومقوياتها في مواقع التواصل الاجتماعي، موضع تساؤل مجتمعي، خصوصا إذا لم تحظ البراءة المعلنة بالحصة نفسها من التغطية الإعلامية التي كانت قد توافرت لتعميم الشبهة.
ومن المدرسة النروجية، يمكن استلهام درس كبير من اضطرار وزيرة العدل سيلفي ليستهوغ، في العشرين من آذار/مارس الحالي على الاستقالة إثر تسببها بضجة سياسية وإعلامية واجتماعية لقولها عن حزب العمال المعارض بأنه "يعتقد أن حقوق الإرهابيين أكثر أهمية من الأمن الوطني".
في بلدان مثل لبنان، فإن هذا النوع من الاتهامات، يكاد يكون ألطف ما يتسلى به المتخاصمون، في حملاتهم الإعلامية المتبادلة.
وتأسيسا على كل ذلك، فالمهمة المطلوبة بإلحاح، في ضوء الوقائع المعلنة في ملف زياد عيتاني (وغير المعلنة في ملفات كثيرة غيرها) إقفال مدرسة تصفية الحسابات السياسية بواسطة الاتهام بالخيانة، وهنا يبرز دور حاسم للمجتمع أولا، وللقضاء أولا وأخيرا.
وفي مطلق الأحوال، من يستجدي ثقة الناس به لا ينالها بقمع الأصوات المعترضة، أو من خلال اللجوء إلى المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها أو بالاستغلال الرخيص لقوانين تجريم الكلمة، بل برسم مسار ينهي المقولة الشعبية الرائجة: السجون مليئة بالأبرياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)