تظاهرة للصحافيين التونسيين ضد تهديدات الشرطة (أ ف ب)
تظاهرة للصحافيين التونسيين ضد تهديدات الشرطة (أ ف ب)

بقلم نضال منصور/

حين تقرأ أن 3681 انتهاكا وقعت على الإعلاميين عام 2016، ولم تتراجع كثيرا في العام 2017 إذ بلغت 2963 انتهاكا راح ضحيتها صحافيون، فأنت تعلم مباشرة ودون تردد وبحث وعناء أو الاستعانة بالسيد "غوغل" أن هذا يحدث في ربوع العالم العربي فقط.

هذه الأرقام الصادمة التي تعرض لها "2370" إعلاميا وإعلامية خلال عامين ليست قصصا من نسج الخيال، بل حقائق وثقتها تقارير حالة الحريات الإعلامية في العالم العربي والتي عكف على إصدارها مركز حماية وحرية الصحافيين ابتداء مما سمي "الربيع العربي" وحتى الآن، وهي لا تختلف كثيرا عما تقوله تقارير المؤسسات الدولية مثل صحافيون بلا حدود، ولجنة حماية الصحافيين.

قد تبدو هذه الانتهاكات غريبة للكثيرين، غير أنها مألوفة لمن عاشوا جحيم العمل الصحافي، وعايشوا سنوات الصمت، ويوميات المساومات والضغوط، ومحاولات الاحتواء بحق رافضي السكوت، والانحناء أو تأجير ضمائرهم وأقلامهم لتصبح بنادق للإيجار، ولا يقبلون أيضا الانضمام لمعسكر من يدقون الطبول ويحملون المباخر للحكومات ومن يدور في فلكها.

ما يحدث مع الإعلام في العالم العربي ليس جديدا. ظل يتكرر طوال العقود الماضية، وبقيت سياسة العصا والجزرة قائمة وإن تغير شكل السلطة، سواء كانت ترتدي بزة عسكرية، أو تلبس عمامة وتقرأ نصا دينيا.

الإعلام العربي لا يخرج من معركة حتى تلاحقه أخرى لتسحق آخر هوامش الحريات التي كان يحلم بها

​​كانت ولا تزال السلطة الحاكمة تريد من الصحافة أن "تنام في فراشها"، وأن تخون جمهورها، وحين ترفض أن تكون جارية في بلاط السلطان تنال العقاب.

ما زالت الذاكرة العربية رطبة ولم تنس حين قتل سليم اللوزي ناشر مجلة الحوادث اللبنانية عام 1980 وقطعت أصابعه التي كانت تمسك القلم، كانت الرسالة واضحة جلية وقد وصلت لمن يهمه الأمر من الإعلاميين.

ما حدث مع سليم اللوزي أعاد تكراره أعداء الصحافة وخصومها حين اغتالوا بدم بارد رسام الكاريكاتور الفلسطيني الأشهر في تاريخ العرب ناجي العلي. أرادوا قتل "حنظلة الضمير" الذي رفض التدجين، وأصر على فضحهم وأدار ظهره احتجاجا.

كان الرهان على أن الربيع العربي سيغير حال الإعلام، وبعد سنوات على الإخفاق وتراجع الحريات لا بد أن نعتذر، فالحلم والوعد لم يكن أكثر من وهم. وانتشاء الصحافيين ورافعي الكاميرات فرحا بالنصر القريب كان أقرب لهلوسات وحمى. استفاق الإعلاميون لاحقا على كابوس إعادة عقارب الساعة للوراء، وباتوا يقارنون بين "بسطار" دكتاتور راحل وآخر قادم، وبين من كان يكتفي بسجنهم وبات اليوم يقتلهم.

ليس شعارا حين نقول بأن العالم العربي البيئة الأكثر خطرا على الإعلاميين في العالم.

فالأرقام تروي الحقيقة، فقد قتل منذ عام 2012 وحتى 2016 خلال 4 سنوات (279) إعلاميا وإعلامية، وتعرض 334 للاختطاف والاختفاء القسري، و118 لمحاولات اغتيال، 162 للتعذيب، في حين حبس 914 إعلاميا و1718 تعرضوا لاعتداءات جسدية خلال تغطيتهم وعملهم الصحفي.

ما يرصد ويوثق ليس كل الحقيقة الصعبة التي يعيشها الصحافيون في بلادنا. فمن القصص الطريفة المبكية التي تروى ما كشفه استطلاع حالة الحريات الإعلامية في الأردن منذ ما يقارب 10 سنوات؛ إذ تبين أن أكثر من 95 في المئة من الإعلاميين يمارسون الرقابة الذاتية عند ممارسة عملهم، وهي نسبة عالية وصادمة، وكانت حينها المرة الأولى التي تذكر فيها. الطريف بالأمر ما كتبه الإعلامي المعروف فهد الفانك في جريدة الرأي تعليقا على هذا الموضوع، حيث أكد ساخرا أن النسبة الحقيقية للرقابة الذاتية عند الصحفيين 100 في المئة ويبدو أن الخمسة في المئة ممن لم يعترفوا بمارسة الرقابة لم يفهموا السؤال.

ليس شعارا حين نقول بأن العالم العربي البيئة الأكثر خطرا على الإعلاميين في العالم.

​​قضية الرقابة الذاتية تثير الشجون، وربما يكون الرقيب الذي يصنعه الإعلاميون في عقولهم هو الأخطر على الحريات، لكنه ليس الوحيد. إذ ينضم للقائمة الرقابة المسبقة التي يمارسها رؤساء ومدراء التحرير بالنيابة عن الحكومات وأجهزة المخابرات، وأحيانا لحماية الشركات ورجال الأعمال وأصحاب السلطة.

الرقابة الذاتية والمسبقة والمخاطر التي يتعرض لها الصحافيون تدفعهم حسب الدراسات الإعلامية لتجنب الاقتراب من مناقشة مواضيع كثيرة تحولت إلى "تابوهات" أبرزها انتقاد الزعماء والرؤساء، والأجهزة الأمنية وقضايا الدين والجنس.

العودة لتاريخ قريب تشي بهذه الحقائق، ففي دولة مثل لبنان تفتخر بأنها بلد الحريات الصحافية، وسائل الإعلام في الغالب مملوكة لزعماء الطوائف، وهؤلاء بالطبع خط أحمر لا يجوز انتقادهم والاقتراب منهم في وسائل إعلامهم. قد يستباحون أحيانا في وسائل إعلام خصومهم، باستثناء "سماحة" السيد حسن نصر الله زعيم حزب الله، فالاقتراب منه ينذر بعودة الحرب الأهلية.

راجعوا ما حدث في مصر؛ كان الرئيس المخلوع حسني مبارك الحاكم بأمر الله، وكانت الصحف القومية تتغنى باسمه ليل نهار، وبعد لحظات من سقوطه أصبح خائنا، وحين جاء الرئيس الإسلامي محمد مرسي من رحم "الإخوان المسلمين" ضاق ذرعا بالصحافة المستقلة، ولم يتردد لحظة في تبديل قيادات الصحف القومية للسيطرة عليها. ولم تتوقف الانتهاكات ضد الصحافيين في عهده، وبعد سنوات على حكم السيسي، يمكن القول بأن فضاء الحريات الصحفية أغلق بتاتا، وعاد الإعلام لزمن "التأميم"، حيث تحكم المخابرات والجيش ملكيتها على وسائل الإعلام مباشرة بأسماء شركات وهي قصة باتت معروفة.

وفي العراق لا يختلف السياق كثيرا، فالرئيس الأسبق صدام حسين المتهم بالدكتاتورية وخنق الحريات الإعلامية أسقطته القوات الأميركية. تناسلت مئات الصحف والقنوات الفضائية والإذاعات، سقط طاغية برأي المعارضين ولكن الإعلام سلم رايته لمئات الطغاة الجدد.

خروج الإعلام العربي من عباءة السلطة الحاكمة تحد صعب المنال. فالقوانين تستخدم كأداة تقييد وتضيق، والإعلام العمومي الذي يمثل المجتمع غائب. الصحافيون المحترفون استبدلوا بالمخبرين، والقضاء المستقل من خلف الأبواب لا يعصى أمر السلطة ويمتثل لها.

بعد كل هذه الأزمات والقيود جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتضعف فرص الإعلام المحترف بالنهوض مجددا. فعدا عن أن كل أنسان أصبح يملك منصة إعلامية ليقول ما يريد دون رقابة مسبقة ووصاية، فإن قدرة وسائل الإعلام للوصول للخبر والمعلومة تراجعت، وزاد من تعقيد المشهد وانحسار دور وسائل الإعلام انفجار المعلومات على شكل فوضى، فأصبح التمييز بين الوقائع والأخبار المزيفة والكاذبة أمرا شاقا.

ثورة الاتصالات التي توجت بوسائل التواصل الاجتماعي تزامنت مع تنامي خطاب الكراهية وهو ما تستخدمه الحكومات وتوظفه لكبح حرية التعبير والإعلام والزج بمخالفيها في السجون تحت هذه اليافطة.

باختصار الإعلام العربي لا يخرج من معركة حتى تلاحقه أخرى لتسحق آخر هوامش الحريات التي كان يحلم بها.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.