يبحث في مكب للنفايات في الديوانية (العراق) حيث تعيش عائلات بلا ماء أو كهرباء (أ ف ب)
يبحث في مكب للنفايات في الديوانية (العراق) حيث تعيش عائلات بلا ماء أو كهرباء (أ ف ب)

بقلم حسين عبد الحسين/

نشر الباحث المرموق روبرت كابلان مقالة بعنوان "البعث سبب الفوضى في العراق وسورية"، قدم فيها ـ بالصدفة ـ رأيا ممتازا حول مشكلة الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وهو رأي يغيب عن نقاشات الشرق أوسطيين، خصوصا المتمسكين منهم بنظريات المؤامرة على أنواعها.

ينسف كابلان التهم التي تحمل الولايات المتحدة مسؤولية احتراق الشرق الأوسط، ويقول إن أميركا تدخلت عسكريا في العراق في العام 2003، فاحترق العراق، ثم امتنعت عن التدخل في سورية منذ العام 2011، فاحترقت سورية، ما يشي أن خلف الحرائق الشرق الأوسطية ما هو أعمق من الدور الأميركي.

ويمكن تعزيز رأي كابلان بسلسلة من الأمثلة حول سياسات أميركا المتنوعة في الشرق الأوسط، من مجاراة "الطغاة الأصدقاء" حرصا على الاستقرار، إلى خلعهم لنشر الديموقراطية مثل العراق، إلى فرض الحصار عليهم ثم مفاوضتهم، مثل الحالة الإيرانية. لم تترك الولايات المتحدة أسلوبا في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط إلا ولجأت إليه، ومع ذلك لم تنجح في وقف، أو الحد من، تدفق شلالات الدماء الشرق أوسطية.

من أحرق الشرق الأوسط هو أهله لا أميركا، وأن الحل يكمن في الحكمة اليونانية القديمة "اعرف نفسك"، وفي نشر الديموقراطية

​​ويعزو كابلان حرائق العراق وسورية إلى "حزب البعث العربي الاشتراكي" الحاكم، ويقول إنه على عكس مصر وتونس، الدولتين ذواتي الحضارة العريقة التي أنجبت قومية حديثة لكل منهما، ينقص العراق وسورية هوية، فيما عزز حزب البعث فقدان هذه الهوية، وبنى حكمه على دموية بشعة استوردها من الكتلة السوفياتية. هنا يخطئ كابلان.

اقرأ للكاتب أيضا: كيماوي واغتيالات بوتين وخامنئي والأسد

في الأرض بين دجلة والفرات، المعروفة بـ"ما بين النهرين"، قامت أول مدينة بشرية قبل 7400 عاما، وحملت اسم عروق، ومنها اسم عراق. وهي في المؤلفات الإسلامية الورقاء، في الغالب نقلا عن التسمية اليونانية أوروك. انقسمت حضارة "ما بين النهرين" إلى شمالية وجنوبية، وتداور الإقليمان على حكم المساحة التي تشكل العراق الحديث.

وورث عراقيو اليوم انقسام الماضي السحيق، على شكل شمال غربي سني ومسيحي أقرب إلى المشرق، وجنوب شرقي شيعي ويهودي أقرب إلى فارس. لكن على الرغم من الانقسامات السياسية، بقيت الهوية العراقية واضحة وضاربة في القدم، وما تزال اللهجة العراقية تحمل مفردات أكادية وسومرية تنفرد بها بين باقي اللهجات العربية المحكية الأخرى.

للعراق هويته، وللبنان كذلك، ولمعظم الشام، وهي المنطقة غير الساحلية للمشرق، كما لمعظم غور الأردن النبطي، الذي يصل تخوم المدينة شمال الحجاز. كذلك لمصر هوية، ولتونس هوية تشبه لبنان. كلها هويات يتكلم أصحابها العربية اليوم بلهجات صنعتها لغات أجدادهم.

دول الشرق الأوسط ما تزال تعيش على ما انفطرت عليه منذ فجر البشرية، أي "حكم الأقوى"

​​ليس غياب الهوية مشكلة العراق وسورية، بل تأخر الشرق الأوسط، وغالبية دول العالم، عن اللحاق بركب عصر التنوير، الذي حملت مبادئه الثورتان الأميركية والفرنسية. في صلب هذه المبادئ أن الإنسان مولود مع حقوق، يفوض بعضها إلى حكومة تختارها غالبية المتعاقدين بموجب وثيقة اسمها "الدستور"، الذي يجبر الحكومة المنتخبة على حماية الحقوق المادية والمعنوية والأمن الجسدي للمواطنين كأفراد، لا كجماعات ذات امتيازات بحسب عديد أو نفوذ الجماعة.

دول الشرق الأوسط ما تزال تعيش على ما انفطرت عليه منذ فجر البشرية، أي "حكم الأقوى"، أو على حسب القول العشائري "إما قاتل أو مقتول". هكذا نشأ صدام حسين وهكذا نشأ حافظ الأسد وعلي خامنئي وقاسم سليماني وغيرهم. لم يأت هؤلاء من المريخ، بل هم نتاج ثقافة غزو وقوة. أما التاريخ، فيثبت أن المنطقة الممتدة من حدود الصين إلى المحيط الأطلسي، تعيش في دوامة حروب منذ قيامها.

اقرأ للكاتب أيضا: ماذا بقي من سيادة الأسد؟

قد تتوقف الحروب في عهد حاكم باطش قوي، مثل صدام أو حافظ، لكن الاستقرار هذا هو الاستثناء، وكل دولة في هذه البقعة من العالم معرضة لنفس مصير العراق وسورية في حال انهيار طاغيتها، والثورات فيها أفضل دليل. إيران كادت تدخل في حرب أهلية بعد انهيار حكم الشاه، فسارع الإسلاميون إلى بناء ميليشيات سمحت لهم بالإمساك بالبلاد، وهو النموذج الذي يحاولون تكراره في لبنان والعراق وسورية واليمن. أما في مصر، فاهتز الاستقرار في ليلة واحدة بعد إجبار حسني مبارك على التنحي، ولم يعد إلا بعد استعادة الجيش زمام الحكم بالكامل.

طبعا هذه ليست دعوة للاستسلام للأمر الواقع وقبول الاستقرار الذي يأمنه بقاء الطغاة في الحكم، بل المطلوب هو عودة الغرب الديموقراطي التنويري إلى نشر ثقافة الديموقراطية في كل دول العالم غير الديموقراطية، واستخدام المال والديبلوماسية لدعم أي ديموقراطيين ممكن أن ينجموا عن برامج التعليم والتدريب (وهؤلاء غير المعارضين الذين يدعون الديموقراطية من أجل نيل الدعم الغربي، ثم يتبين أنهم أسوأ من الطاغية نفسه، مثل في التجربة مع المعارضين العراقيين والسوريين).

كابلان على حق أن من أحرق الشرق الأوسط هو أهله لا أميركا، وأن الحل يكمن في الحكمة اليونانية القديمة "اعرف نفسك"، وفي نشر الديموقراطية، لا الحديث عن هويات وقوميات، هي في الغالب متخيلة، حتى في الدول الديموقراطية المستقرة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.