تمثل العقارات 75 في المئة من الثروة في العالم المتقدم (أ ف ب)
تمثل العقارات 75 في المئة من الثروة في العالم المتقدم (أ ف ب)

بقلم جمال أبو الحسن/

"هيرناندو دي سوتو"، الاقتصادي البيروفي الشهير (مولود في 1946)، قدم تفسيرا عجيبا لفشل الرأسمالية في بلدان العالم النامي، مقارنة بالنجاح الذي استطاعت تحقيقه في الغرب. هو يرى أن غياب تنظيم واضح وشامل للملكية الخاصة هو السر وراء الفشل في تحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب لتوليد الثروة في الدول النامية.

للوهلة الأولى، يبدو هذا التفسير عجيبا، بل وغير قابل للتصديق. غير أن من عاش في العالم النامي ـ ككاتب هذه السطور ـ يدرك جيدا معنى أن يكون نحو نصف الاقتصاد خارج القطاع الرسمي؛ أي في منطقة رمادية تقع بين القانون واللاقانون. هذا هو ـ مثلا ـ الحال في مصر، حيث القطاع غير الرسمي ـ من صناعات صغيرة غير مقننة، ومحال غير مرخصة، ومشروعات لا سجل قانونيا لها وعقارات مبنية على أرض بوضع اليد ـ يمثل نسبة لا بأس بها من الناتج القومي الإجمالي، البعض قدرها بـ 40 في المئة!

في كتابه "سر رأس المال: لماذا تنتصر الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر" (صادر بترجمة عربية عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 2002)، أورد "دي سوتو" تقديرات مدهشة حول حجم الاقتصاد غير الرسمي في العالم النامي. أحد الأفكار المهمة التي أشار إليها تتعلق بالعقارات غير المسجلة، أي تلك التي يحوزها أصحابها من دون أن يتمتعوا بسند ملكية قانوني لها.

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: ما الذي يحركها؟ (1)

غياب منظومة الملكية القانونية يحول دون الاستفادة الاقتصادية من هذه الأصول. في المنظومة الرأسمالية العقار هو أكثر من مجرد مكان للسكان. هو أصل يمكن استخدامه في توليد الثروة، من خلال الرهن العقاري وحق الارتفاق وضمانات القروض، وغيرها من الأدوات المالية. وعلى سبيل المثال، فإن 70 في المئة من الائتمان الذي تحصل عليه المشروعات الجديدة في الولايات المتحدة يأتي من سند الملكية للعقارات. العقارات تمثل 75 في المئة من الثروة في العالم المتقدم، و50 في المئة من الثروة في العالم النامي!

السر الجوهري في نجاح الرأسمالية هو القانون الذي يسمح بتنظيم المجتمع بحيث يطلق كافات طاقاته الكامنة توطئة لحشدها من أجل الانتاج وتوليد رأس المال

​​الفكرة التي يطرحها "دي سوتو" ثورية بحق. هو لاحظ، بعد سنوات من البحث، أن كل شيء له قيمة تجارية مسجل بشكل منظم في الغرب. "تثبيت الملكية" بهذه الصورة هو أمر جوهري من أجل استغلالها اقتصاديا. الملكية المسجلة قانونا هي الوسيلة الوحيدة لتحديد الأصول وتقصيها ومبادلتها. على النقيض، نرى الوضع في العالم النامي مختلفا بصورة جذرية.

بداية من خمسينيات القرن الماضي شهد العالم النامي ثورة اقتصادية تتشابه، على الأقل في بعض جوانبها، مع الثورة التي شهدها الغرب قبل ذلك بمائتي عام. ظهور التكنلوجيا الزراعية قلل الحاجة إلى العمالة في الفلاحة، ودفع الملايين إلى الهجرة إلى المدن. تزامن ذلك مع تحسن الطب وانخفاض نسبة وفاة حديثي الولادة. النتيجة كانت تضخما استثنائيا في حجم المدن.

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: أصل الفكرة (2)

هؤلاء القادمون الجدد صادفوا مشاكل في الاندماج بصورة قانونية في الحياة الاقتصادية للمدينة. أغلبهم عاش في مساكن غير مسجلة بشكل قانوني، أو أنهم قاموا ببناء مساكنهم بأنفسهم. الكثير منهم يعملون في القطاع غير الرسمي الذي لا يتمتع بحماية القانون. هذا الوضع ـ كما يخبرنا كتاب "سر رأس المال" ـ حرم الملايين من التمتع بالأصول التي يحوزونها دون أن يملكوها بشكل قانوني.

"دي سوتو" قدر إجمالي العقارات التي يحوزها الفقراء في العالم بـ 9 تريليون دولار. الرقم في مصر هو 240 مليار دولار (أي 55 مرة حجم الاستثمار الأجنبي)؛ مع ملاحظة أن هذه الأرقام تعود إلى أوائل الألفية أو ربما تسعينيات القرن الماضي غير أن الوضع في مجمله لم يتغير كثيرا منذ هذا التاريخ، على الأقل فيما يخص مصر!

السر أن الملكية تمثل رأس مال كامن. تسجيلها بصورة قانونية ـ كما هو الحال في الغرب ـ هو السبيل الوحيد لإطلاق هذه الطاقة الكامنة. هذا يتطلب قانونا موحدا بسيطا يوفر كافة المعلومات عن الاقتصاد. يتطلب أيضا قواعد واضحة وبسيطة للتعامل في الملكية، وبما يسهل على الناس عملية تسجيلها. التسجيل هو ما يجعل الأصول قابلة للاستبدال، ومن ثم تسهيل الصفقات.

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: كيف يجسدها "إيلون ماسك"؟ (3)

هذا، بدوره، يتيح للحكومات مساءلة أصحاب الملكية، والتمييز بين الملتزمين وغير الملتزمين. وفي ظل توفير الحماية القانونية للمعاملات تنضم أعداد أكبر للسوق الرسمي. نقطة القوة لدى الغرب تكمن في "حماية المعاملات" وليس مجرد حماية الملكية.

لاحظ هنا أن عملية تسجيل الملكية ليست مسألة تقنية. هي مسألة سياسية وقانونية بالدرجة الأولى. هي تتعلق بقدرة النظم السياسية والاقتصادية على دمج "القادمين الجدد" تحت مظلة القانون. الغرب واجه هذا الوضع من قبل. القرنان الـ 17 و18 شهدا بداية تدفق الهجرات من الريف إلى المدن في أوروبا. في البداية كان الحل هو التضييق على هؤلاء، بل والدعوة إلى إعادتهم إلى بلداتهم الأصلية. شهد البرلمان الإنكليزي في القرن السادس عشر تصاعد الشكاوى من حشود الشحاذين والمشردين واللصوص في لندن. صدر قانون في 1697 لا يسمح للناس بالهجرة إلى المدينة إلا إذا حصلوا على "شهادة توطن" من السلطات القائمة. ومن العجيب أن نسمع اليوم صدى لنفس هذه الأفكار والدعاوى في دول العالم النامي!

70 في المئة من الائتمان الذي تحصل عليه المشروعات الجديدة في الولايات المتحدة يأتي من سند الملكية للعقارات

​​في البداية طاردت السلطات هؤلاء القادمين الجدد. ضيقت على الصناعات التي لا تدخل في نظام الحرف والطوائف. لم يكن خافيا أن الغرض الحقيقي يتعلق بحماية الصناعات القائمة. على أن الأمور تغيرت بمرور الوقت. مع تسارع عجلة الثورة الصناعية أدركت الحكومات في الغرب الحاجة لتكييف القانون ليلائم حاجات الناس والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة وأن بعض الصناعات غير المنظمة، مثل صناعة القطن في بريطانيا، أثبتت أنها أفضل وأكثر تنافسية من الصناعات الراسخة المنضوية تحت النطاق الرسمي، كصناعة الصوف.

والحال أن الولايات المتحدة تظل النموذج الأبرز على هذا التوجه نحو تطويع القانون لملاءمة أوضاع غير قانونية يخلقها المجتمع. منذ البداية ظهر أن القانون البريطاني لا يلائم مجتمعا يولد بصورة متسارعة فرصا متزايدة للحصول على الملكية. في إنكلترا، كان "وضع اليد" مخالفا للقانون. في أميركا، التي بناها المستوطنون، "وضع اليد" سابق على الحكومة ذاتها!

اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: المِلكية الخاصة! (4)

الاتجاه العام في الولايات المتحدة كان في صالح تقنين حالات "وضع اليد". منذ القرن التاسع عشر، اعترف القانون بأن قيام "واضعي اليد" من المستوطنين بإدخال تحسينات على الأرض يرتب لهم حقوقا قانونية. مرسوم "هومستيد" الشهير الصادر في 1862 أعطى للمستوطنين حق تملك 160 فدانا خالية مقابل الموافقة على العيش فيها وتطويرها عمرانيا. في 1866 صدر قانون مد حقوق التمليك لمن أنفق 1000 دولار على أرض وضع يده عليها. دمج حقوق الملكية غير القانونية في الإطار القانوني جعل الولايات المتحدة أكبر منتج لرأس المال في العالم!

الفكرة التي طرحها " دي سوتو" في كتابه المهم تستحق التوقف عندها. في نهاية الأمر، السر الجوهري في نجاح الرأسمالية هو القانون الذي يسمح بتنظيم المجتمع بحيث يطلق كافات طاقاته الكامنة توطئة لحشدها من أجل الانتاج وتوليد رأس المال. الخطوة الأولى هي أن يكون القانون شاملا، وبسيطا، ويشجع الجميع على الانضواء تحت مظلته. مهم للغاية أن يقتنع الناس أن البقاء خارج مظلة القانون الرسمي يكلفهم أكثر. ليس هذا التنظيم بالأمر الهين، خاصة في مجتمعات العالم النامي، بضخامة سكانها وتراكم مشكلاتها، وتعقد أوضاعها، وتشابك غابات القوانين فيها.

إن الأمر يحتاج لإرادة سياسية حديدية تهوي بمعول الإصلاح على كافة القوانين التي كبلت الانطلاق الاقتصادي في الدول النامية لعقود طويلة.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.