في أحد مساجد في فيينا (أ ف ب)
في أحد مساجد في فيينا (أ ف ب)

ازدادت في العقود الأخيرة أعداد المسلمين المهاجرين للدول الغربية لأسباب مختلفة من بينها الاقتصادية والسياسية. وبمرور الوقت بدأت تطفو على السطح مشاكل كثيرة تتعلق باندماج تلك الجاليات في المجتمعات الجديدة، ويقف في مقدمة أسباب تلك المشاكل موضوع الهوية الدينية وما يرتبط بها من أفكار وممارسات.

من بين العقبات الكثيرة التي تقف في وجه الاندماج هو حالة الانغلاق على الذات لدى بعض المهاجرين الذين هم في الغالب من اللاجئين، وكذلك وجود نوع من فقدان الاتزان أو الفصام بين التقاليد التي نشأوا عليها في بلدانهم والواقع الجديد الذي وجدوا أنفسهم فيه.

وبدلا عن السعي لمعالجة هذه الحالة الانشطارية، فإن هناك من بين هؤلاء المهاجرين من اختار الدخول في صدام مع الواقع بهدف تغيير معالم الدولة المدنية في المجتمعات المضيفة. فتجدهم مثلا يطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية في أوروبا وأستراليا باعتبار أنها تمثل المخرج لتلك المجتمعات من الضلال والانحراف.

خلقت هذه التوجهات شكوكا وهواجس كثيرة لدى أطياف واسعة من شعوب الدول المستضيفة خوفا من تأثيرها على القيم وأنماط الحياة في تلك المجتمعات التي ترسخ فيها احترام الحريات والدستور والقوانين.

اقرأ للكاتب أيضا: فتوى "الحرقة" الجزائرية

وفي هذا الإطار استقبل بريدي الإلكتروني مؤخرا رسالة من صديق مقيم في جمهورية إيرلندا، وفي الرسالة يقول إن مسؤولا كبيرا في "المركز الثقافي الإسلامي" قد أدلى لموقع Medical Independent بتصريح يفيد بأنه: "لا يجب منع ختان الإناث بل يتوجب السماح بممارسته بطريقة معقولة".

يتشبث بعض المسلمين المهاجرين بالبقاء في الغرب الذي يعارضون قوانينه، ولا يرحلون للعيش تحت الظلال الوريفة لحكومات بلادهم المستبدة

​​ويشير الخبر إلى أن ختان الإناث، والذي يطلق عليه مصطلح "تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية"، يعتبر ممارسة غير قانونية في إيرلندا بموجب قانون العدالة الجنائية (تشويه الأعضاء التناسلية للإناث) لعام 2012.

ولكن المسؤول بالمركز الثقافي الإسلامي في دبلن، علي سليم، قال إن للمركز موقفا معارضا لتشويه الأعضاء التناسلية للمرأة وليس للختان، وأنه يتوجب السماح بممارسة الأخير بصورة معقولة، مستشهدا بحديث للرسول الكريم محمد يعطي تبريرا لهذه الممارسة.

وأضاف سليم: "الختان موضوع يجب تحديده من قبل طبيب. إذا كان الطبيب يعتقد أن هناك حاجة له، فلنفعل ذلك. وإذا رأى الطبيب غير ذلك، فلا يجب فعله. ولكن إذا قمنا بعمله، فيجب أن نفعل ذلك بحذر وبأمان، ويجب أن نقوم بقطع القدر اللازم (من العضو)".

وبحسب الخبر فإن علي سليم عجز عن تحديد ماهية الحاجة الطبية التي يمكن أن تجعل الطبيب يقرر إجراء عملية الختان، فعندما سئل هل هي حاجة تدعو لها ضرورة الحد من ممارسة الجنس بصورة غير شرعية كانت إجابته: لا.

من المؤكد أن دعوة السيد سليم لا تستند على أي أساس علمي. فالأمر الثابت طبيا هو أن الختان يسبب العديد من المشاكل العضوية والنفسية للمرأة، بالإضافة للكثير من التعقيدات في الإنجاب والولادة، والأهم من ذلك تأثيره السلبي على علاقتها الحميمية مع زوجها. فالبظر عضو له وظيفة، ويسمح للمرأة بالاستمتاع مع زوجها، فتحبه أكثر وتعطيه من كل قلبها، أما بتره فيجعلها حزينة ولا تصل للرضاء بما تمارسه مع زوجها.

وكذلك لا يوجد فرق بين أنواع الختان المختلفة، فجميعها يسبب ذات الضرر البالغ. ومن الجلي أن مربط الفرس في دفاعه عن هذه الممارسة هو إشارته للحديث المنسوب للنبي محمد في هذا الخصوص، وبالتالي فهو ينظر للقضية كواجب ديني ولا عبرة بحديثه عن ضرورة استشارة الطبيب فهو قد ذكره لمجرد التمويه والتغطية على قناعته الخاصة بأن تلك الممارسة تأتي تنفيذا للأوامر الدينية.

ومن المعلوم بداهة أن هذه الممارسة بدأت قبل ظهور الإسلام وكان الغرض منها وما زال هو إضعاف شهوة المرأة. وهي ظاهرة مختلف حولها حتى في الإطار الإسلامي، حيث أن هناك مؤسسات دينية عديدة من بينها الأزهر الشريف ترفضها وتفند الأدلة المنسوبة للرسول الكريم في حضه على ضرورة إجراء هذه العملية.

غير أن ما يثير الدهشة والحيرة في هذا الإطار هو إصرار السيد سليم على معارضة القوانين التي تجرم هذه الممارسة البغيضة، مع إدراكه اليقيني أنه يتوجب على المواطن في الدولة التي يعيش في كنفها "إيرلندا" احترام القانون، ومع علمه أن الممارسة المستندة إلى قناعته الدينية الخاصة غير ملزمة لتلك الدولة.

ولكن المفارقة المحزنة تتمثل في أن بعض المسلمين المهاجرين يسعون تحت ادعاءات الحفاظ على حقوق الأقليات إلى تبديل الأسس التي قامت عليها تلك المجتمعات رغم الاختلاف الكبير بينها وبين مجتمعاتهم التي فروا هاربين من جحيمها للاستمتاع بالمزايا العديدة التي توفرها الدول المضيفة.

والجدير بالذكر أن المركز الثقافي الإسلامي في دبلن ليس هو الوحيد الذي سار في هذه الوجهة المعاكسة، بل إن هناك أفرادا وجماعات إسلامية ظلت تدعو علنا لإقامة أنظمة عدالة موازية لتلك الموجودة في مهاجرهم الغربية، وذلك باعتبار أن دينهم الإسلامي يدعو لتطبيق أحكام الشريعة!

ففي مطلع هذا الشهر قرر حزب الوسط السويدي سحب ثقته من العضو بالحزب، ابتسام الدبعي، بسبب إصدارها حكما غير سليم في قضية في المحكمة الابتدائية في محلية سولنا بالعاصمة استكهولم، وسط اتهامات لها بأنها تعتمد الشريعة بدلا من القانون السويدي.

لا مناص من أن يندمج المهاجرون في مجتمعاتهم الجديدة وأن يلتزموا قوانينها في ذات الأوان الذي يحتفظون فيه بهوياتهم بطريقة لا تتعارض مع الأسس الراسخة لتلك المجتمعات

​​ابتسام عضو في هيئة المحلفين عن حزب الوسط، وقد عرضت عليها قضية تتهم فيها امرأة زوجها بالتعدي عليها بالضرب، وقد حكمت ابتسام ببراءة الزوج من ضرب زوجته وقالت في حيثيات الحكم إن عائلة الزوج الذي وجهت إليه شبهات الاعتداء تبدو أسرة جيدة، على عكس المرأة المعتدى عليها، "وهو أمر له معنى عند تقييم قضية الخطأ".

كما قالت في حكمها إن مصداقية المرأة تنخفض لأنها أبلغت الشرطة عن الاعتداء بدل أن تتحدث بذلك لأقارب الزوج. وفي تغريدة له على موقع تويتر، قال حزب الوسط إن "فرعه في سولنا أبلغ العضوة المحلفة (الدبعي) أن الحزب يسحب ثقته بها"، وجاء في التغريدة: "لذلك دعيت الدبعي إلى ترك مهمتها، التي نفترض أنها تقوم بها الآن. هذا النوع من التفكير الذي تقف وراءه غير مقبول مطلقا".

هذا الحكم أدى لردة فعل واسعة في المجتمع السويدي، وانشغل الإعلام بهذه القضية بصورة كبيرة وطفق يبحث في خلفيات السيدة ابتسام الدبعي، فاكتشف أنه سبق لها أن دعت لتغيير القوانين السويدية لتتماشى مع بعض قوانين الشريعة الإسلامية.

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (4)

لا شك أن السيد سليم والسيدة ابتسام يدركان أن مجتمعاتهم الجديدة لم تعد تقبل ممارسة العقوبات الجسدية مثل البتر والجلد والرجم، وهي العقوبات التي يتطلع لها المطالبون بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكذلك فإن تلك المجتمعات لا تقبل بأن تكون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في المحاكم وغير ذلك من الفروق الأساسية.

الغريب في الأمر أن من يعترضون على قوانين الدول الغربية المضيفة ويطالبونها بضرورة مراعاة خصوصيتهم الهوياتية لا يتورعون عن الجهر بالرفض لافتتاح معبد هندوسي في الإمارات، ولا يسمع لهم صوت معارض لهدم الكنائس في السودان، ولا يسألون السلطات السعودية السماح لغير المسلمين بممارسة عباداتهم بصورة علنية.

وهم أيضا يتشبثون بالبقاء في الغرب الذي يعارضون قوانينه، ولا يرحلون للعيش تحت الظلال الوريفة لحكومات بلادهم المستبدة التي تسمح لهم بختان المرأة وضربها وغير ذلك من الممارسات الممنوعة في الغرب، وهي مفارقة في غاية الغرابة تشي بنوع من الانفصام في السلوك.

لا مناص من أن يندمج هؤلاء في مجتمعاتهم الجديدة وأن يلتزموا قوانينها في ذات الأوان الذي يحتفظون فيه بهوياتهم بطريقة لا تتعارض مع الأسس الراسخة لتلك المجتمعات؛ وإلا فإن النتيجة ستكون التضييق وقفل المنافذ أمام المهاجرين وهو الأمر الذي سيتضرر منه غالبية المسلمين وليس الأقلية من أصحاب الاتجاهات الانعزالية والمنغلقة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.