يرفض بولتون الاتفاق النووي مع إيران بالمطلق (أ ف ب)
يرفض بولتون الاتفاق النووي مع إيران بالمطلق (أ ف ب)

بقلم جويس كرم/

دونالد ترامب صبره ضيق، ويعتمد في أسلوبه السياسي كما التجاري على عوامل المفاجأة والصدمة ومخالفة التوقعات، وجاء أداؤه في ملفات حاسمة من القدس إلى سورية إلى كوريا الشمالية ليوافق هذا النمط.

أما في الملف الإيراني، المؤشرات الآتية من البيت الأبيض توحي بتصعيد وشيك تتلاقى فيه تعثرات الاتفاق النووي الإيراني قبل موعد 12 أيار/مايو (موعد استمرار تعليق العقوبات الأميركية على إيران أو إعادة العمل بها)، والتعيينات الجديدة في الإدارة، والمناخ الإقليمي المتشنج بين طهران ولاعبين محوريين. هكذا تصعيد لا يعني بالضرورة الوصول للخيار العسكري أو مواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران، بل يعني سخونة إقليمية واقتصادية في ملفات تطال إيران ومحاولات لتغيير الصورة الجيوسياسية في المنطقة.

لدى بولتون مهارة لاستخدام الأدوات الحكومية الأميركية السرية للضغط على الأنظمة

​​بداية من التعيينات الجديدة لترامب. لم يترك الرئيس الأميركي مجالا للشك أنه باستبدال وزير الخارجية ريكس تيلرسون بمايك بومبيو، ومن ثم تعيين جون بولتون بديلا لهربرت ماكماستر كمستشار للأمن القومي، يريد رفع حرارة النار ضد إيران. انتقد بومبيو وبولتون الاتفاق النووي الإيراني، وفي حين تأقلم الأول لإبقاء العمل بالاتفاق، فإن مستشار الأمن القومي الأميركي الجديد يرفضه بالمطلق.

ترى الشخصيتان إشكالية مع النظام في إيران، وتحبذان إعادة دائرة تغيير النظام الإيراني للعمل في وكالة الاستخبارات الأميركية. في المقابل يعارض وزير الدفاع جايمس ماتيس ومدير الاستخبارات دان كوتس هذه التوجهات وهما من البرغماتيين في الإدارة ويؤيدان الحفاظ على الاتفاق النووي.

اقرأ للكاتبة أيضا: ترامب يقيل تيلرسون: الأسباب والتوقعات مع بومبيو

بولتون، الذي يبدأ منصبه الجديد خلال 12 يوما، ليس من المحافظين الجدد بل من الأصوات المؤيدة لعسكرة السياسة الخارجية الأميركية من دون أن يعني ذلك نشر الديموقراطية أو تحميل أميركا أعباء بناء الدولة في العراق أو ليبيا أو أماكن أخرى. فعقيدة بولتون (كما ترامب) تحبذ الضربات الانفرادية مثل تلك التي قامت بها إسرائيل في كل من سورية في 2007 والعراق في 1981، وقد تؤدي إلى ضربات مماثلة تستهدف المفاعلات النووية الإيرانية في حال انهار الاتفاق.

كما أن لدى بولتون مهارة لاستخدام الأدوات الحكومية الأميركية السرية للضغط على الأنظمة، وهو خلافا لسلفيه العسكريين في المنصب ماكماستر ومايك فلين، لديه خبرة طويلة داخل الحكومة الأميركية ويعرف دهاليزها الاستخباراتية والبيروقراطية.

من هنا، فإن استلام بولتون قبل شهر على موعد البت بالاتفاق النووي الإيراني، يمنح ترامب خيارات داخل الحكومة الأميركية للضغط على إيران حتى في حال الإبقاء على الاتفاق. فهناك خيار الاستمرار بالضغط عبر العقوبات الاقتصادية في ظل تهاوي سعر التومان الإيراني، في حال اتفق الأميركيون والأوروبيون على إطار يحفظ الاتفاق ويمدد فترته ويتعاطى مع التهديد الباليستي.

استلام بولتون قبل شهر على موعد البت بالاتفاق النووي الإيراني، يمنح ترامب خيارات للضغط على إيران حتى في حال الإبقاء على الاتفاق

​​الخيار الثاني فرض عقوبات على البرنامج النووي في حال انسحبت واشنطن من الاتفاق. والثالث احتمال إبطال إيران للاتفاق. وجميع هذه الخيارات تحمل تصعيدا ضد إيران، وكون تمادي النفوذ الإيراني وتضاربه في العمق اقتصاديا وسياسيا وأمنيا مع مصالح ورؤية إدارة ترامب، يجعل منه أولوية اليوم.

أما إقليميا، فالصواريخ الباليستية التي استهدفت السعودية من اليمن أعادت العلاقة السعودية ـ الإيرانية إلى مربع متشنج يواكب التصعيد الأميركي. واتهام وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الثلاثاء لإيران بتزويد الحوثيين بالصواريخ وإطلاقها بتواجد عناصر من حزب الله على الأرض في اليمن يعني اتساع فلك الرد السعودي وامتداد حلقة التشنج الإقليمي.

اقرأ للكاتبة أيضا: ترامب يراجع خياراته حول سورية

وتزامن هذا الأمر مع إطلاق لجنة أميركية ـ سعودية ـ إماراتية للأمن القومي لمواجهة التحدي الإيراني يوم الجمعة الفائت في واشنطن بحضور مستشاري الأمن القومي من هؤلاء الدول. بحثت اللجنة أيضا الدور الروسي وحرب أفغانستان إنما الغرض الأساسي من إنشائها هو إيران.

إدارة ترامب تتهيأ لتصعيد سياسي واقتصادي وأمني في وجه إيران عشية مفاوضاتها مع الأوروبيين حول مصير الاتفاق النووي. وسواء صمد الاتفاق أم انهار، فعملية شد الأحزمة بدأت مع تسليم بولتون وبومبيو نسخة من مفاتيح القيادة، وعلى وقع تشنج وتبدلات غير مسبوقة في الصورة الإقليمية تنهي حقبة المهادنة والتقارب الإيراني ـ الأميركي في عهد باراك أوباما.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.