تظاهرة ضد الفساد في العراق (أرشيف)
تظاهرة ضد الفساد في العراق (أرشيف)

بقلم إياد العنبر/

يعرف الفساد، وفقا للمنظمات الدولية، بأنه إساءة استخدام السلطة المعهودة أو المواقع العامة من أجل المنفعة الخاصة. ويعتقد Vineeta Yadav في دراسته (الأحزاب السياسية وجماعات الأعمال والفساد في الدول النامية)، أن هذه التعاريف منقوصة؛ لأن الوحدات السياسية لا يشترط لها أن تكون في المواقع الحكومية حتى تستغلها للمنفعة الخاصة، إذ هناك أحزاب وهي خارج السلطة يمكن لها أن تمارس الفساد، فضلا عن ذلك أن بعض المنافع المحصلة من الفساد لا تذهب مباشرة للمنفعة الشخصية بل قد تذهب للمصلحة الحزبية بشكل عام وليس لمصلحة فرد معين.

وعليه طرحت منظمة الشفافية الدولية تعريفا للفساد بأنه "سوء استخدام السلطة المعهودة للقادة السياسيين بهدف زيادة المنفعة الخاصة لزيادة السلطة أو الثروة، ومن هذا لا يرتبط الفساد السياسي فقط بالأموال وإنما قد يشمل المتاجرة بالمواقع السياسية أو النفوذ السياسي على سبيل المثال، وتغيير أو إصدار بعض القوانين لمصلحة فئة أو شركة معينة وهو ما يهدد الديمقراطية".

والوصف الأكثر مصداقية لشعار محاربة الفساد في العراق، هو أن السلطات تحارب الفساد ـ إن صحت دعوتها ـ لأنها لا تريد شركاء لها في استغلال المناصب الحكومية لصالح منافع شخصية أو حزبية، لا سيما في دولة تحتل صدارة الدول الأكثر فسادا ـ حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.

يحتاج العراق إلى إيجاد تجربته الخاصة لخلق نموذج في محاربة الفساد يكون متلائما مع نمط اقتصاد ريعي

​​وتحديد الفساد في العراق بحد ذاته موضوع إشكالي، فالدولة لا تعد مزاد بيع العملة في البنك العراقي المركزي فسادا، في حين يعده الكثير من السياسيين والخبراء الاقتصاديين من أخطر تحديات الاقتصاد  العراقي. بالإضافة إلى أن الدولة لا تعتبر سيطرة المقربين على مشاريع الاستثمار والمقاولات فسادا.

إذا، يرتبط موضوع الفساد في عجز وهشاشة الدولة، ومثل هكذا دولة تكون بيئة خصبة لمافيات الفساد. وهذه المافيات مرتبطة مباشرة بقوى حزبية فاعلة في النظام السياسي العراقي، وتشتغل بعناوين المكاتب أو الهيئات الاقتصادية للأحزاب السياسية، بالإضافة إلى القوى اللادولتية التي تسيطر على منافذ اقتصادية مهمة.

ومنطق مافيات الفساد، كما يصفه عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار، منطق مزدوج؛ "فهي جهاز لاقتناص الثروة، وإدامة الفوضى، فهذا هو جانبها التدميري. لكن الوجه الآخر مثير حقا، وهو جانب قانوني. فالمافيات بعد أن تكنز ما تكنز من الذهب الرنان تكون مهددة من مافيات أخرى قد تحاول انتزاع مكاسبها. من هنا خوفها من إظهار ثروتها، أو التمتع العلني بمكاسبها الحرام. لذا ينشد المافيوي تهدئة الأوضاع واستعادة القانون لكي يتسنى له تبييض أمواله على وجه السرعة، والتمتع بها علنا. هذا التحول يكاد يسري على غالبية المافيات". فهل يستطيع رئيس مجلس الوزراء السيد العبادي مواجهة مافيات الفساد بعناوينها المختلفة؟ والتي باتت تتغلغل في المؤسسات السياسية، وتشكل قوى موازية للدولة.

وهناك عجز واضح في عمل المؤسسات المعنية بالتحقيق ومتابعة ملفات الفساد، والتي أصبحت عاجزة عن القيام بوظائفها، لأنها لا تمتلك الصلاحيات الكافية، ولا تملك القدرة على ملاحقة الفاسدين، بالإضافة إلى تسييس ملفات الفساد بهدف "التسقيط السياسي"، كما فعلت الحكومة السابقة.

من جانب آخر هناك مشكلة في بنية النظام السياسي، يتمثل في ضعف الدور الرقابي للسلطة التشريعية، والتي يفترض أنها السلطة العليا. فملفات التحقيق والاستجواب باتت تخضع للاتفاق بين رؤساء الكتل السياسية وزعماء الأحزاب، أكثر من اعتمادها على معيار رقابي موضوعي. وتحول الدور الرقابي كوسيلة لتصفية الحسابات بين الخصوم السياسيين، وفي حالات كثيرة منصة إعلامية لكثير من النواب الباحثين عن حضور في برامج الحوار السياسي في بعض الفضائيات الحزبية التي تلعب دورا في تشويش الرأي العام أكثر مما تعمل على كشف الحقائق. وفي حالات بسيطة جدا يكون الدور الرقابي مهنيا وموضوعيا وكاشفا للمفسدين: لكنه يتحول من دون أثر فعلي في الإقالة، بسبب حماية مافيات الفساد ورؤساء الكتل السياسية.

في دولة مثل العراق نحتاج إلى تحويل محاربة الفساد إلى قضية إجماع وطني

​​وعلى مستوى السلطة التنفيذية، هناك نقطة مهمة تفند شعار محاربة الفساد، وهي إلزام الدستور العراقي الحكومة تقديم الحسابات الختامية لكل سنة مالية قبل تقديمها مشروع الموازنة العامة للعام القادم. في حين صادق مجلس النواب، في تشرين الأول/أكتوبر من 2015، على الحسابات الختامية لسنتي 2005 و2006 بعد إرسالها من الحكومة، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2016 صوت (بصيغة قرار) على تصفير الموازنات العامة للأعوام 2008 ـ 2009 ـ 2010 ـ 2011، وترك المخالفات الواردة في حساباتها الختامية إلى القضاء.

وعلى الرغم من وجود مخالفات بعنوان سلف أو صرف بدون تخصيصات تبلغ قيمتها ما يقارب 142 ترليون دينار عراقي (ما يقارب 100 مليار دولار). وهذا يعني أن الحكومة الحالية قد ساهمت في التغطية على فساد أو سوء استغلال الأموال العامة للحكومات السابقة، كونها لم تعمل على رفع المخالفات إلى القضاء العراقي للبت فيها قبل رفعها إلى مجلس النواب لتصفيرها. أو على الأقل التدقيق فيها وتوضيح أوجه المخالفات والتي تدرج ضمن الفساد المالي.

والموضوع ليس تشكيكا بنوايا رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي في دعوته لمحاربة الفساد، والذي يبحث عن منجز آخر يضاف إلى رصيده في الانتخابات القادمة. وإنما الشك في الإرادة السياسية المطلوب توفرها لمحاربة الفساد، مع الإشارة إلى عدم إمكانية محاربة الفساد بالشعارات والخطابات السياسية وفي المنابر الإعلامية. إذ في دولة مثل العراق نحتاج إلى تحويل محاربة الفساد إلى قضية إجماع وطني، وهذا يتطلب رؤية واضحة تتجسد في مشروع قانون، ومؤسسات فاعلة.

وأخيرا يحتاج العراق إلى إيجاد تجربته الخاصة لخلق نموذج في محاربة الفساد يكون متلائما مع نمط اقتصاد ريعي، وبيئة ثقافية وأخلاقية تشرعن الفساد بتمجيدها قيم التغالب وتتعاطى مع المال العام بمفهوم الغنيمة أو أنه مجهول المالك.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.