من الانتخابات البلدية الأخيرة في لبنان (أرشيف)
من الانتخابات البلدية الأخيرة في لبنان (أرشيف)

بقلم حازم الأمين/

قالت المقاتلة المراهقة في وحدات حماية المرأة الكردية في مدينة القامشلي السورية إنها التحقت بالوحدات هربا من والدها الذي كان ينوي تزويجها وهي لم تبلغ السادسة عشر من عمرها. القانون الذي سنته الإدارة الكردية المحلية والذي يمنع الزواج المبكر، يواجه بمقاومة ضارية من المجتمعات المحلية في المنطقة. وهذه المقاومة هي جزء من "مقاومات" موازية تبديها معظم مجتمعاتنا حيال محاولات تحديث متواضعة أقدمت أو حاولت أن تقدم عليها أنظمة هي بدورها تعوزها الشرعية التمثيلية.

المأزق هنا مضاعف، ويتقاسمه طرفا المعادلة. مجتمعات تقاوم التحديث، وأنظمة استبدادية وغير شرعية. بعضنا قرر أن يواجه الأنظمة الاستبدادية وأن يسقط في فخ "المجتمعات النقية"، وبعضنا الآخر قرر أن ينخرط في حرب الأنظمة على شعوبها ومجتمعاتها. المعادلة لا يمكن اختصارها بـ "جلاد وضحية"، وكلما أمعنا في حروبنا يتكشف لنا أن الجلاد ليس جلادا وحسب، والضحية ليست ضحية مطلقة.

النقاش اليوم مثلا حول الانتخابات في لبنان يكشف أن القانون الذي ستجري بموجبه هذه الانتخابات جائر وتمييزي ويخدم طبقة سياسية فاسدة. لكن القانون هذا يخاطب شرائح اجتماعية ومذهبية كانت القوانين السابقة قد أمعنت في تهميشها.

الخطاب الشعبوي الداعي إلى تبن مطلق لأمزجة المجتمعات ليس سوى صفحة من صفحات الاستبداد

​​ثمة شرائح لبنانية واسعة تشعر بأنها استعادت عبر هذا القانون الجائر فعلا قدرتها على التأثير. هو قانون متخلف من دون شك، لكنه يستجيب لتخلف يوازيه. وهو قانون لا يشبه فقط النخبة السياسية اللبنانية الفاسدة، إنما يشبه أيضا شيئا في اللبنانيين. الهرب من هذه الحقيقة لن يخدم الرغبة في التقدم وفي تجاوز هذا القانون.

اقرأ للكاتب أيضا: مثلث الردة اللبناني: باسيل ونصرالله والحريري

والحال أن النخب في انخراطها بخطاب شعبوي تهمل حقيقة الشبه بيننا وبين تخلفنا. بيننا وبين حروبنا، وبيننا وبين فسادنا. نحن من دون شك ضحايا هذه الآفات، لكننا لسنا أبرياء منها. قانون الانتخابات العراقي هو من أحدث قوانين العالم وأكثرها تظهيرا لمستويات التمثيل. لكن ما ينجم عن هذه الدقة في تظهير المشهد السياسي بصفته موازيا للمشهد الاجتماعي، هو مجلس نواب بالغ المذهبية والارتهان والفساد.

فالقانون إذا ما أدى وظيفته التقنية المتمثلة في تظهير اتجاهات الرأي العام، وهو ما سيفعله في بغداد، فسنكون أمام مجلس نواب لا مشكلة لديه في الحروب الأهلية والفساد، وفي المذهبية بصفتها مرضنا الأصلي. وهو، أي القانون، كان سيعطي حصة لـ "داعش" في هذا المجلس فيما لو أتيح لأمرائها الترشح للانتخابات.

لا ينطوي هذا الكلام على رغبة في هجاء المجتمعات، إنما على التأمل بخطاب النخبة العربية، سواء تلك المنحازة بالمطلق إلى المجتمعات، أو تلك التي تقف إلى جانب الأنظمة. الديكتاتوريون لم يسقطوا علينا من السماء، وهم ليسوا من صنع الاستعمار والإمبريالية. لصدام حسين محبون كثرا بيننا، وبشار الأسد يحجز مكانا في قلوب كثيرين منا. وهذا الكلام على قساوته يجب أن يكون جزءا من عملية تقييمنا لما نحن فيه من موت وهشاشة وردة.

المسؤولية عن التخلف متبادلة، والمجتمعات ليست بريئة بدورها مما حل بها

​​السخرية من قانون الانتخاب في لبنان ومن ذهاب المصريين إلى انتخاب رئيس لا مرشح غيره، يوازيهما سعادة بهذا القانون في لبنان، وقبول بالنتيجة المضحكة للانتخابات المصرية. هذا خطأ يجب التعامل معه بشقيه. اللبنانيون سعيدون بطائفيتهم، والمصريون قابلون بديكتاتورهم. عرض هذه المعادلة لا يعني القبول بها، بل يعني مباشرة مقاومتها من مكان آخر.

اقرأ للكاتب أيضا: عن الجزيرة السورية المحاصرة بالأشرار

فقد سن برلمان كردستان العراق مثلا قانونا فيه عقوبات قاسية لمرتكبي جرائم الشرف. القانون لم يكن كفيلا بالحد من الظاهرة، لا بل إن الأخيرة تفاقمت في ظل عمليات التمدين السريعة وفي ظل عدم رغبة الحكومة في الاصطدام بالبنى العشائرية التي تغذي شبكات النفوذ والفساد في الإقليم.

سن القانون خطوة ضرورية، لكنها ستكون بلا معنى إذا لم تشتغل معها آليات أخرى. النسبية في قانون الانتخابات العراقي لم تنتج طبقة سياسية أفضل مما هو موجود، وإلغاء قانون الصوت الواحد في الأردن خطوة متقدمة إلا أنه قد يفضي إلى حرب أهلية إذا لم يوازيه عقد سياسي واجتماعي مختلف.

الأمثلة لا تنتهي، وكلها يفضي إلى حقيقة أن المسؤولية عن التخلف متبادلة، وأن المجتمعات ليست بريئة بدورها مما حل بها. وما الخطاب الشعبوي الداعي إلى تبن مطلق لأمزجة هذه المجتمعات سوى صفحة من صفحات الاستبداد.

ولنا على هذا الصعيد في تجربتي البعث، لجهة تبنيهما كل ما ابتذلته مجتمعاتهما من شعارات مثالا. ففلسطين التي قتل العراقيون والسوريون على مذبح خطاب "تحريرها"، كانت استجابة البعثين لما يعرفون أنه جزء من وعي مجتمعاتهما. صحيح أنهما ابتذلا هذه القضية واستعملاها أسوأ استعمال، إلا أنهما لم يستحضراها من الفراغ.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.