بقلم توفيق حميد/
بين الحين والآخر يخرج علينا أحد الشيوخ سواء كان سلفيا مثل المدعو ياسر برهامي، أو أزهريا مثل الشيخ عبد الله رشدي بتصريح مفاده أن المسيحيين كفرة!
وللأسف الشديد إن الأمر لا يقف فقط عند حدود هؤلاء المشايخ، بل يتعداه إلى نسبة ليست بقليلة من المجتمعات الإسلامية والتي تؤمن بنفس الفكر.
الأمر برمته مثير للغثيان لأن الكافر في المفهوم التقليدي للشريعة الإسلامية لا بد من قتاله حتى يذعن للإسلام. ويراه، للأسف الشديد، العديد من "الفقهاء" حلال المال والدم وأحيانا حلال العرض.
شيء بشع ومقزز حتى لمجرد مناقشته، لكنني مضطر أن أناقشه لكي أطرح فهما آخر لهذه المسألة يقضي على اتهام المسيحيين بالكفر بصورة نهائية.
يقف المسلم البسيط حائرا بين قلبه الذي يرى أن المسيحي الطيب الذي يعامله برحمة وإنسانية، ويؤمن بوجود إله ويوم حساب مثله لا يمكن أن يكون كافرا، وبين آراء الشيوخ والتي يدعمونها بآيات من القرآن بأن المسيحيين "كفرة".
ومن أكثر الآيات التي يستخدمها رجال الدين في هذا المضمار هي آية {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ} وآية {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ}.
والآية الأولى ذكرت في سورة المائدة آية 17 وآية 72، أما الآية الثانية فقد ذكرت في نفس السورة آية 73.
اقرأ للكاتب أيضا: من سيدخل الجنة: الشيخ الشعراوي أم ستيفن هوكينغ؟
والآن سأتطرق للآية الأولى والتي دأب الإسلاميون على استخدامها لتكفير الإخوة المسيحيين، ولن أجد ما أبدأ به أفضل من قول العلامة الشوكاني في كتابه "فتح القدير" حين قال في هذه الآية إن ضمير الفصل في قوله: {هُوَ ٱلْمَسِيحُ} يفيد الحصر؛ أي أن {ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ} لا غيره، أي أن التعبير حدد الذات الإلهية في جسد المسيح "فقط".
والحقيقة أن أغلب المسيحيين لا يرون أن الله محدد "فقط" في جسد المسيح، بل بالحقيقة هم يرون الله في ثلاثة أقانيم أو تجليات، فهو الإله الخالق السرمدي غير المنظور أو الآب (وهي كلمة آرامية تعني الله) وهو أيضا الإله المتجلي في شخص المسيح (أو ما يسمى مجازا بالابن) وبالإضافة إلى ذلك فهو الروح التي تعيش فينا (أو الروح القدس).
أو بمعنى آخر فإن المسيحيين لا يحددون الله "فقط" في جسد المسيح لكي تنطبق عليهم الآية المذكورة.
ولكي أوضح هذا الأمر سأضرب مثلا لغويا بسيطا وهو أنه إن قال قائل بأن "الماء بخار" فهو يختلف كلية عن القول بأن "البخار ماء".
فالمعنى الأول "الماء بخار" خطأ لأنه "يحدد" صفة الماء في صورة غاز فقط، ويلغي وجود صور أخرى له مثل الماء السائل والثلج المجمد، أما المعنى الثاني وهو أن "البخار ماء" فهو صحيح لأن البخار في حقيقته هو ماء، ولأن التعبير لم يلغ وجود صور أخرى للماء مثل السائل والثلج المجمد كما ذكرنا.
وذلك المبدأ ينطبق تماما على المفهوم بأن القرآن رفض فقط تعبير أن "الله هو المسيح" لأنه يحدد الله "فقط" في الجسد، ويلغي وجود صور أخرى للذات الإلهية.
باختصار شديد هناك فارق لغوي كبير بين تعبير "الله هو المسيح" وهو يحدد الإله فقط في الجسد، وبين تعبير بأن "المسيح هو الله" وهو ما لا يلغي صور الله الأخرى، والقرآن اعتبر "الكفر" فقط في الحالة الأولى أي التحديد في الجسد.
ولذا فإن المسيحيين الذين يرون أن الله ليس محددا فقط في الجسد، وأنه يتجلى في أكثر من صورة فهم ليسوا كفارا تبعا للقرآن.
أما الآية الثانية وهي {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} فهي تتكلم عن ثلاثة آلهة مختلفة وليس ثلاث صور لإله واحد كما يؤمن أغلب وإن لم يكن كل المسيحيين.
على سبيل المثال ذكر القرآن تعبيرا مشابها لـ "ثالث ثلاثة" وهو تعبير "ثاني اثنين" حينما تكلم عن خروج محمد عليه السلام من مكة مع صاحبه، فقال "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا".
وهنا نقف لحظة أخرى أمام التعبير اللغوي "ثَانِيَ اثْنَيْنِ".
فتعبير "ثاني اثنين" يتحدث عن شخصين مختلفين تماما ـ هما محمد وأبو بكر الصديق وكذلك الحال في قوله (لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله "ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ") فهي تتحدث عمن يعبد "ثلاثة آلهة مختلفة" وليس من يقول بأن الله هو واحد ويتجلى في ثلاث صور كما يؤمن أغلب الإخوة المسيحيين.
أما الحجة الثالثة هنا فهي أن القرآن فرق بوضوح بين "الكافرين" وبين ما يسمى في القرآن "أهل الكتاب" أو بمعنى آخر المسيحيين واليهود، فقد حرم القرآن الزواج من "الكفار" فقال "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" في حين أنه أباح الزواج من أهل الكتاب.
اقرأ للكاتب أيضا: هل الحجاب فريضة؟
فلو كان القرآن يرى أن المسيحيين (واليهود) كفرة ـ كما يرى المتطرفون ـ لما أباح الزواج منهم تبعا لآية "وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ".
وفوق كل هذا فقد أوضح القرآن الكريم الفارق الشاسع بين المسيحيين وبين الكفار في قوله تعالى "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ". أي أن أتباع المسيح أو لغويا "المسيحيين" ليسوا كافرين بل هم ـ كما جاء في القرآن ـ في منزلة عالية جدا عند الله.
وأكاد أرى أعين بعض دعاة الكراهية الآن وهم يشتاطون غضبا من هذه المواجهة الفكرية، وتتعالى أصواتهم بأن المسيحيين ـ على أقل تقديرـ كافرون بمحمد عليه السلام.
وهنا يأتيهم الرد القرآني "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، والآية كما يرى الجميع لم تشترط الإيمان بمحمد لدخول الجنة.
وهذه هي الآية كما جاءت في القرآن فمن كان لديه اعتراض عليها فليعترض!
والآن أدعوا الجميع إلى الحوار!
ــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)