يتصور "سيلفي" أمام أحد ملصقات الفيلم في كينيا (أ ف ب)
يتصور "سيلفي" أمام أحد ملصقات الفيلم في كينيا (أ ف ب)

بقلم منصور الحاج/

دفعني الفضول إلى الذهاب إلى قاعة السنيما لمشاهدة فيلم الرجل الخارق "النمر الأسود" (Black Panther) بعد أن أدهشني حماس الأميركيين من أصول أفريقية له وإشادتهم بفكرته ونجومه وما تركه عليهم من أثر وحديثهم عن مدى أهمية أن يكون للأطفال من ذوي البشرة السوداء أبطال خارقون من بني جلدتهم.

أعجبني الفيلم وقد تفاعلت مع بعض مشاهده لكنه لم يترك في نفسي نفس الأثر الذي رأيته عند الكثير من المشاهدين الذين رأيتهم يتزاحمون عند اللوحة الإعلانية الخاصة بالفيلم بعد انتهاء العرض لالتقاط الصور التذكارية وكان معظمهم يرتدون ملابس ذات طابع أفريقي أو مشابهة لأزياء الممثلين والممثلات. كما قلد البعض التحية الخاصة بسكان مملكة واكاندا الإفريقية بوضع اليدين على الصدر على شكل الحرف "إكس" وهم يرددون بعض العبارات التي علقت في أذهانهم ويجتهدون في تحدث الإنكليزية بلكنة إفريقية كالتي يتحدثها الواكانديون.

وأكثر ما شد اهتمامي في الفيلم هو محاولته إبراز الجمال الطبيعي لأصحاب البشرة السوداء وإعلاء مكانة المرأة والتذكير بأهمية إفريقيا وغناها بالموارد الطبيعية. لاحظت أيضا أن الفيلم يتضمن نظرة نقدية للرجل الأبيض لاستعباده السود واستغلاله لهم في بناء بلاده وتقوية دعائم اقتصاده، وكذلك لنهبه ثروات القارة وتقسيمه لها بطريقة عشوائية وتشتيته لأبنائها حول العالم. ويربط الفيلم بين قارة إفريقيا والشعب الأفريقي والأميركيين من أصول أفريقية ويبرز أهمية أن يتوحد أبناء القارة وتحديدا ذوي البشرة السمراء على الرغم من الفوارق في المطامح والمطالب والتحديات.

أثار الفيلم فضولي بعد أن لاحظت الانطباعات المختلفة التي تركها على نفوس أصحاب البشرة السوداء على اختلاف خلفياتهم الثقافية وهوياتهم الدينية وانتماءاتهم الاجتماعية وميولهم الجنسية. وحين بدأت في القراءة عن هذه الانطباعات، أثار اهتمامي حوار نشرته صحيفة "الواشنطن بوست" أجرته الكاتبة كارين عطية وهي من أصول إفريقية مع الصحفي الكيني لاري مادووا الذي تحدث أثار عدة نقاط مهمة متعلقة بالفيلم كما سلط الأضواء على نقاط الاختلاف بين الأفارقة والأميركيين من أصول أفريقية.

اقرأ للكاتب أيضا: قراءة في الرؤية الإصلاحية لماجد نواز والإمام التوحيدي

من أبرز ما لاحظه السيد مادووا هو أن لكنة سكان واكاندا لم تكن موحدة في الفيلم، حيث يتحدث الممثلين بلكنات إفريقية متعددة وهذا ربما من الأمور التي لن يلاحظها غالبية الأميركيين من أصول أفريقية لكنه تفهم في الوقت نفسه أن إتقان لكنة معينة ليس بالأمر السهل.

تحدث مادووا أيضا عن أن التراث الغنائي الإفريقي لم يكن ممثلا بما يكفي في الفيلم كما أعرب أن استيائه أن نجوم الفيلم لم يفتتحوا الفيلم في أي من دور العرض في العواصم الإفريقية واصفا ذلك بأنه من أكثر الأمور إحباطا فيما يتعلق بالفيلم. وأشار إلى أن السبب قد يعود إلى قلة دور العرض في إفريقيا لكنه أكد أن: "تدشين الفيلم في إفريقيا كان سيترك انطباعا رمزيا كبيرا نسبة لأنه يعلي بلا خجل من قدر أصحاب البشرة السوداء".

الصحفي الكيني تناول أيضا العلاقة المعقدة بين الأميركيين من أصول إفريقية وبين الأفارقة. أشار إلى وجود تنافس وعداء غير مبررين بينهما إلا أنه أثنى على أنهما عملا سويا وأنتجا فيلما بحجم "النمر الأسود" الذي اعتبره مصدر فخر لأصحاب البشرة السوداء في كل أنحاء العالم، وذكر أن قوة فيلم "النمر الأسود" هي مؤشر لما يمكن أن يتحقق حين يعملان سويا.

لكن في المقابل يعتقد البعض بأن موقف الأميركيين من أصول إفريقية من الأفارقة مبرر فيما يؤمن آخرون بوجود قوى تسعى لتعزيز الفرقة بين السود وتحول دون وحدتهم. فعلى سبيل المثال، صديقي تشارلز الذي لم يشاهد الفيلم يعرف نفسه بأنه أميركي أسود ويرفض أن يوصف بأن أميركي إفريقي. لا يرغب تشارلز في معرفة من أي دول إفريقيا ينحدر أسلافه ولو كان الأمر بيده لقام باستبدال كلمة الأميركيين الأفارقة بالأميركيين السود من اسم المتحف الضخم بالخاص بالتاريخ والثقافة الذي تم افتتاحه في واشنطن في عام 2016.

أما ميلاني وهي أميركية سوداء من أب ينحدر من جمهورية الدومينيكان وأم "أفرو ـ أميركان" كما تصفها، فترى أن "أي خلاف بين الأفارقة والأميركيين السود مرده أن الطرفين لا يفهمان بعضهما البعض بشكل كاف وهذا يعود إلى اعتمادهما على وسائل الإعلام الغربية (التي يتحكم فيها البيض) لتحليل القضايا الخاصة بالسود".

وترى ميلاني التي تؤمن بأهمية وحدة السود بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية، بأن جزءا مهما من تاريخ قارة إفريقيا مغيب عن العامة. ففي البرازيل، بحسب قولها، يستخدم رجال الأمن العنف ضد البرازيليين السود وهو أمر مشابه للعنف الذي يتعرض له السود في الولايات المتحدة على أيدي رجال الشرطة.

أما صديقي ويسلي الذي ينحدر من أصول إفريقية ويعمل في مجال التعليم وهو من المدافعين عن حق السود في أن توفر لهم الدولة مناخا تعليميا مساويا لما يتمتع به البيض في الولايات المتحدة فيرى أن من المؤسف أن يكون هناك تمييز على أساس لون البشرة بين البشر من الأساس ناهيك عن أن يصل الأمر إلى خلافات جوهرية بين السود في مختلف بقاع العالم.

اقرأ للكاتب أيضا: حراس الفضيلة وحربهم الخاسرة ضد حقوق المرأة

يعترف ويسلي بوجود اختلاف ثقافي بين الأميركيين من أصول إفريقية والأفارقة لكنه في الوقت نفسه يرى أن الأمر نفسه ينطبق على شعوب القارة الإفريقية بل وحتى في أوساط الأميركيين من أصول إفريقية في الولايات المتحدة.

إن عبارة "مجتمع الأميركيين من أصول إفريقية" بحسب ويسلي لا وجود له على الإطلاق على أرض الواقع بنفس القدر الذي لا يوجد فيه مجتمع خاص بالأميركيين البيض في الولايات المتحدة. ويرى ويسلي بأننا جميعا "بشر نعيش في مجتمعات مختلفة بأنماط حياتية مختلفة بغض النظر عن البشرة.

لا يرى ويسلي أن في الفيلم الذي حقق أعلى نسبة مبيعات في تاريخ السينما في الولايات المتحدة أي نقطة سلبية، ففي خاتمة الفيلم التي يقول فيها ملك واكاندا بأن ما يجمع بين بني البشر أكثر مما بفرقهم وأن على بني البشر العمل سويا.

إن فيلم "النمر الأسود" من أكثر الأفلام نجاحا في تسليط الضوء على قارة أفريقيا وعلى أصحاب البشرة السوداء وهذا النجاح الذي حصده ما هو إلا مؤشر لما يمكن للسود إحداثه في جميع أنحاء العالم فيما لو توحدوا وسعوا من أجل إيجاد حياة أفضل للمضطهدين من أصحاب البشرة السوداء حول العالم.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.