فتيات سودانيات في مدرستهن في مخيم الرياض للنازحين في ولاية غرب دارفور (أرشيف)
فتيات سودانيات في مدرستهن في مخيم الرياض للنازحين في ولاية غرب دارفور (أرشيف)

بقلم بابكر فيصل بابكر/

لا يختلف اثنان ولا تنتطح عنزان في أن النظام التعليمي يمثل رأس قاطرة انتقال المجتمعات من حالة الجمود والتخلف الاقتصادي والاجتماعي إلى آفاق المعاصرة والتنمية، وهو الأمر الذي أثبتته التجربة في العديد من دول العالم الثالث التي استطاعت تجاوز خانة التخلف وانتقلت إلى مربع الدول الحديثة والمتقدمة.

في هذا الخصوص كانت الجبهة القومية الإسلامية (الفرع السوداني لحركة الإخوان المسلمين) التي سيطرت على الحكم منذ عام 1989 عبر الانقلاب العسكري، قد طرحت نفسها كحركة بعث وتجديد تسعى لإحداث النهضة الحضارية ليس فقط على نطاق السودان ولكن في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

وإذا كان التعليم هو رأس الرمح في عملية التنمية الشاملة، فإنه قد ثبت وبما لا يدع مجالا للشك (بلغة القانونيين) الفشل الذريع لمشروع الحكم الإسلاموي في السودان بعد مرور ثلاثة عقود من السيطرة الكاملة والمنفردة على مقاليد الدولة والحكم.

لا يوجد علاج للمشاكل الكثيرة المرتبطة بقضية التعليم إلا عبر تغيير جذري يطال نهج التحكم وعقلية السيطرة الأيديولوجية

​​منذ الوهلة الأولى شرع النظام الإسلاموي في تغيير المناهج الدراسية بلا أساس علمي أو أهداف واضحة ووفقا لمنظور أيديولوجي مغلق وجامد وأحادي ينبني على الحفظ والتلقين والاجترار ولا يشجع على النقد والإبداع والابتكار. وقد وقع هذا التغيير ضمن خطة سياسية لا تضع التعليم في مقدمة أولوياتها حيث لم تتجاوز النسبة المالية المخصصة له أكثر من ثلاثة في المئة في جميع الميزانيات السنوية طوال 29 عاما هي فترة الحكم الإسلاموي.

وسرعان ما تبين الحصاد البائس لتلك السياسة. تضاعف الفاقد التربوي عشرات المرات إذ يوجد في السودان اليوم حوالي ثلاثة مليون طفل خارج نطاق التعليم بحسب أرقام منظمة "اليونسيف". وارتفعت نسبة الأمية في البلاد من 37 في المئة إلى 57 في المئة وفقا لإحصاءات المجلس القومي لمحو الأمية. وتراجع مستوى التعليم الجامعي تراجعا مخيفا بسبب الفصل التعسفي الذي طال مئات الأساتذة وهجرة الآلاف منهم لتدني الأجور وعدم توفر البيئة الصالحة للبحث.

اقرأ للكاتب أيضا: مفارقات بعض الجاليات المسلمة في دول الغرب

وقد تم إقصاء أصحاب الخبرات من رجال التربية والتعليم غير الموالين للتوجهات الإسلاموية في إطار سياسة "التمكين" البغيضة. وكذلك تمت شيطنة المناهج السابقة عبر توظيف خدعة "أسلمة العلوم" التي تناقض المفهوم الصحيح لعالمية العلوم. وعانى المعلم من ضعف المقابل المادي ومن التراجع في مجالات التأهيل والتدريب، وقد حدث كل هذا في ظل توجه رسالي عرف باسم "المشروع الحضاري" يتوهم أصحابه امتلاك الصواب الكامل.

غير أن عدة أمور وقعت الأسبوع الماضي أوضحت الحال المأزوم الذي يعيشه النظام التعليمي في ظل الحكم الإسلاموي. وكان أول هذه الأمور هو الخبر الصادم الذي أوردته الصحف وكشفت فيه وزارة التربية والتعليم عن رسوب أكثر من 70 في المئة من المعلمين الذين جلسوا لامتحان رخصة مزاولة المهنة، وقالت إن "8460 معلما من جملة الممتحنين البالغ عددهم 11 ألفا" قد رسبوا في الامتحان!

الأرقام أعلاه تعكس بوضوح حجم الكارثة التي حلت بالتعليم بعد ثلاثة عقود من حكم الإسلامويين، فإذا كان هذا هو حال المعلم الذي يمثل الركيزة الأساسية في العملية التعليمية، فكيف نتوقع أن تكون مخرجات تلك العملية؟

أما الأمر الثاني فقد تمثل في الأسئلة الغريبة التي وردت في امتحان مادة "التربية الإسلامية" لطلاب الشهادة الثانوية، والتي كان من بينها السؤال التالي: ما هو حكم من جامع (زنى) امرأة يظن أنها زوجته؟ هل يرجم أم يجلد أم يترك؟

السؤال أعلاه يعكس مدى الغباء والبلادة الذهنية لدى الذين قاموا بوضعه في الامتحان إذ أنه يستحيل على الإنسان العاقل أن يستوعب كيف يمكن لشخص ممارسة العملية الجنسية مع امرأة وهو لا يدري إن كانت هي زوجته أم لا؟

ومن ناحية أخرى، فإن هذا النوع من الأسئلة يهدف إلى ترسيخ العقوبات الجسدية (الرجم والجلد) التي تقع في صميم التوجهات الفكرية للتيارات الإسلاموية، وهي توجهات تخالف الكثير من الاجتهادات المعاصرة، ولتأكيد هذا الهدف يطرح على الطالب سؤال آخر: رجل طلق امرأة ثم زنا بها، هل حكمه الرجم، أم الجلد، أم لا حد عليه؟

تم إقصاء أصحاب الخبرات من رجال التربية والتعليم غير الموالين للتوجهات الإسلاموية في إطار سياسة "التمكين" البغيضة

​​وتتأكد الطبيعة الأيديولوجية للأسئلة من خلال السؤال التالي: متى لا يجوز للرجل النظر إلى وجه المرأة؟ وكما هو معروف فإن أحوال العصر قد تجاوزت موضوع النظر لوجه المرأة، حيث باتت الأخيرة تتواجد بقوة في الفضاء العام الذي يوجب الاختلاط بينها وبين الرجل بصورة مستمرة، وبالتالي فإن مثل هذا السؤال لا يصلح في هذا الزمان.

أما الأمر الثالث المحزن والذي لم يلتفت إليه كثير من المحللين فهو حدوث حالات إنجاب وسط الطالبات من ضحايا زواج القاصرات اللائي جلسن لأداء الامتحانات الشهادة الثانوية، حيث أوردت وسائل الإعلام الخبر كالتالي: "شهد اليوم الأول لامتحان الشهادة السودانية 6 حالات ولادة لطالبات ممتحنات، بكل من ولايات غرب دارفور، الجزيرة، والنيل الأبيض".

اقرأ للكاتب أيضا: في نقد مفهوم البيعة عند الإخوان المسلمين (4)

من المؤكد أن قضية زواج القاصرات لم تبدأ مع وصول الإسلامويين للحكم فقد ظلت موجودة منذ فترات سابقة، ولكن من المؤكد أيضا أن النظام الإسلامي قد فاقم من انتشارها بصورة كبيرة، إذ ظل الشيوخ والوعاظ المنتمون لتيار الإسلام السياسي على الدوام يناهضون الدعوات لرفع سن الزواج، ويستشهدون بالعديد من الأحاديث النبوية ومن بينها حديث السيدة عائشة الذي أورده البخاري وفيه تقول: "تزوجني النبي صلي الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة.. فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين".

لا يوجد علاج للمشاكل الكثيرة المرتبطة بقضية التعليم إلا عبر تغيير جذري يطال نهج التحكم وعقلية السيطرة الأيديولوجية، وعبر إشراك كافة السودانيين من أهل الدراية والمعرفة في المراجعة الشاملة لأوضاع التعليم وفي التخطيط للعملية التعليمية.

لا مناص كذلك من تحديد فلسفة وبرامج وأهداف العملية التعليمية بوضوح ومن خلال الإجابة على السؤال: هل نريد تكوين صناع التقدم والابتكار والإبداع أم نهدف لتخريج محاربين وشيوخ دين ووعاظ؟ يقودنا الخيار الأول لتضمين قيم التعددية وكونية العلم والمعرفة واحترام الاختلاف والإعلاء من قيمة حقوق الإنسان في مناهج التعليم، أما الخيار الثاني فلن يؤدي إلا للمزيد من الأجيال المعزولة عن العالم وعن حركة تطور العلم.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.