عبد الله الحشماوي وزوجته حمدية أثناء اعتقالهما_أرشيف
عبد الله الحشماوي وزوجته حمدية أثناء اعتقالهما_أرشيف

بقلم حسين عبد الحسين/

اعتقلت السلطات المحلية في ولاية تكساس أبا وأما عراقيين بعد قيامهما بإجبار ابنتهما البالغة من العمر 16 عاما على الزواج من مسن، من خلال الإيحاء بخنقها، وتهديدها بصب الزيت الساخن عليها، وضربها. هربت الفتاة من منزل أهلها ولجأت إلى السلطات التي وضعتها تحت رعاية اجتماعية.

تقع الحادثة في صميم الانفصام الذي يعاني منه اللاجئون، خصوصا من العرب والمسلمين في الدول الديموقراطية. وفد اللاجئون إلى دول الشتات بحثا عن حياة أفضل، لكن المفارقة تكمن في أن عددا لا بأس به منهم يتمسك بنفس التقاليد البالية التي أفضت إلى انهيار مجتمعاتهم في دولهم الأم.

في الثقافة المنتشرة بين غالبية المهاجرين العرب والمسلمين أن عليهم التمسك بدينهم وتقاليدهم، لأن دول اللجوء ـ التي تكره الإسلام لغيرتها من عظمته ـ تسعى لتوطين اللاجئين لديها، لا بمنحهم جوازات سفر وفرص عمل، فحسب، بل بفرض تقاليدها السائدة وقوانينها المطبقة، وهو ما يستبدل تقاليد المهاجرين "فينسون دينهم".

إن الهجرة خيار بين دول وبين منظومات عيش، فمن يختار وصاية الحاكم على المحكوم والرجل على النساء، فالأجدى به البقاء في بلده الأم

​​في اعتقاد المهاجرين هذا ما هو صحيح، لكن الاستنتاج خاطئ. دول الاغتراب، خصوصا الديموقراطيات الغربية، تفرض قوانينها، الجزائية والاجتماعية، على الوافدين إليها، كما تفرضها على كل مواطنيها والمقيمين فيها، وهذا جيد. فمنع العنف المنزلي هو في صميم نزع ثقافة العنف السائدة في البلد الأم للاجئين، حيث يضرب الزعيم مساعديه، ويضرب مساعدوه مخبريهم، ويضرب المخبرون الناس، ويضرب الرجال من الناس نساءهم وأولادهم، ويضرب الأولاد بعضهم البعض. وحتى يسود الأمن الاجتماعي، على الحكومات أن توقف العنف في "الوحدة السياسية الأولى"، أي العائلة، وهو ما لا يروق لعدد من المهاجرين، الذين يعتبرونه تدخلا من الحكومة في شؤونهم الخاصة.

اقرأ أيضا: من أحرق الشرق الأوسط؟

أما القول بأن الحكومات الغربية تعمل حتى "ينسى المسلمون دينهم" فهو محض افتراء. فالديموقراطيات الغربية معقل الحريات على أنواعها، الدينية والسياسية وغيرها. ما تفرضه هذه الحكومات على المهاجرين إليها هو تحديد أماكن ممارسة شعائرهم وعباداتهم، فلا يجوز أن يتعدى الدين على الحيز العام، ويجب أن يبقى في الأطر المرسومة له، أي في المعابد والبيوت.

ما يختلط على اللاجئين هو قيامهم بمزج تقاليدهم بمعتقداتهم، فالدين الإسلامي، مثلا، يحظر الإكراه في الزواج، ولا يتطرق إلى الختان.

على أنه في الإسلام وصاية للرجال على النساء، وهو أمر يتعارض مع الحريات الفردية في الديموقراطيات، وعلى اللاجئين الاختيار: إما البقاء في دول يمكن للرجال فيها ممارسة وصايتهم على نسائهم، أو الهجرة إلى دول يتساوى فيها الرجال مع نسائهم. أما أن يهاجر الرجل إلى دول المساواة، هربا من قهر الحكام، ثم يحتفظ لنفسه بطغيانه على نسائه، ففي الأمر انتقائية ونفاق.

إن الهجرة خيار بين دول وبين منظومات عيش، فمن يختار وصاية الحاكم على المحكوم والرجل على النساء، فالأجدى به البقاء في بلده الأم. أما من يبحث عن دول يتساوى في حقوقه فيها مع باقي المواطنين، بمن فيهم حكامه ونسائه، ويسعى لفرص حياتية مختلفة له ولعياله، فقد يكون المهجر الخيار الأنسب.

ما يختلط على اللاجئين هو قيامهم بمزج تقاليدهم بمعتقداتهم، فالدين الإسلامي، مثلا، يحظر الإكراه في الزواج، ولا يتطرق إلى الختان

​​في التراث العراقي أغنية شهيرة عن فتاة أراد أهلها تزويجها عنوة، فراحت إلى مأمور الزواج وهي تردد "انا المظيليمه (المظلومة) أنا… أنا المسيكينه (المسكينة) أنا… أنا اللي باعوني… بدينار باعوني… بالقوة زوجوني… وعليه غصبوني". وتتابع: "أروح للملا علي (مأمور الزواج)… وأقله يا ملا علي… شايب وأنا بنية… زوجوني فصلية.. حسباني ما ريده… أقع وأبوس إيده (للملا علي راجية أن لا يتمم الزيجة)".

بعد عقود كثيرة، ما زالت عراقيات كثيرات يعانين من مصيبة الزواج المبكر عنوة. الأبوان العراقيان في تكساس لم يحيدا عن هذا التقليد البالي، فبدلا من أن ينعما بالفرص التي تقدمها الولايات المتحدة لمواطنيها وللمهاجرين إليها، وبدلا من السعي لحياة أفضل لابنتهم، حاولا تكرار تجربتهما الحياتية البائسة مع ابنتهما.

اقرأ للكاتب أيضا: كيماوي واغتيالات بوتين وخامنئي والأسد

طبعا نقول بائسة لأن عمر أم الفتاة يبلغ 33 عاما فقط، ما يعني أنها تزوجت وحملت في سن 16، وهو نفس العمر الذي تحاول فرضه لزواج ابنتها. لكن لحسن حظ الفتاة، فهي على عكس أمها التي نشأت في عراق القمع، تكبر الفتاة في أميركا الحرية، والفتاة أفادت من حريتها برفض التقليد العراقي البالي، وبتمسكها بالفرص المتاحة أمامها لإتمام تعليمها، والارتقاء في عملها، وبناء حياة أفضل من التي أتيحت لوالديها.

"لتكن لهم حياة ولتكن حياة أفضل"، قال المسيح حسب إنجيل يوحنا، وهو قول مرفوع على الباب الرئيسي لـ "الجامعة الأميركية في بيروت"، وهو قول يصلح ليكون شعارا للمهاجرين من دول الحرب والشقاء إلى دول تقدم حياة أفضل ومستقبلا أبهر، على الأقل لمن يعرف كيف يستفيد من هذه الفرص. أما من يرى في هذه الفرص مشكلة تهدد معتقداته، فالمعمورة واسعة، ويمكنه اختيار دول أخرى قد تناسب أكثر أسلوب الحياة الذي يسعى للعيش فيه، ولتنشئة أولاده وأولادهم.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.