ترامب خلال لقائه مع قادة دول البلطيق (أ ف ب)
ترامب خلال لقائه مع قادة دول البلطيق (أ ف ب)

بقلم حسن منيمنة/

لا شك أن رئاسة دونالد ترامب تشكل انتقالا نوعيا، في خطابياتها كما في سياساتها، للموقف التي اعتادت عليه الولايات المتحدة إزاء القضايا الدولية عامة، وتجاه مسائل حقوق الإنسان والقيم العالمية تحديدا.

ففي حين أن مجمل الرئاسات السابقة كانت تشدد على خصوصية لواشنطن في صياغتها للسياسة الخارجية، توفق بين المصالح والمبادئ، فإن ترامب خرج عن هذه القاعدة ليس فقط بإهماله الإشارة إلى مسعى التوفيق هذا، بل بلجوئه إلى ما يناقضه جهارا نهارا.

فلم يكن يعقل قط، حتى أمس قريب، أن يصرح رئيس أميركي بأن أحد الأخطاء التي ارتكبتها بلاده في الحرب في العراق مثلا، هو أنها لم تستول على النفط. أو أن يقول أخيرا إنه إذا شاءت السعودية استمرار الدور الأميركي في سورية، فلتتفضل بتسديد التكاليف. أو أن يتقدم بالتهنئة لكل من فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي لفوز انتخابي أقل ما يقال بشأنه إنه لا يستوفي شروط حرية الاقتراع ونزاهته. هذا هو ترامب، وهذه هي المواقف المتكررة والثابتة على ما يبدو للإدارة الأميركية الجديدة.

الولايات المتحدة كانت ولا تزال الجهة المانحة الأولى عالميا في كافة البرامج الإنسانية والإغاثية

​​اعتبارات ترامب في مواقفه داخلية في الأصل، انطلاقا من قناعة معلنة لديه ولدى العديد من مؤيديه أن الولايات المتحدة قد أفرطت بتقديم الخدمات للعالم، وأنها لم تلق من الآخرين التقدير المطلوب، ولا بد بالتالي من انكفاء يهدف إلى تغليب المصلحة الذاتية أولا.

وفي المقابل، فإن خصوم الرئيس السياسيين يجاهرون بموقف معارض مفاده أن التزام المبادئ في صياغة السياسة الخارجية لا يشكل انسجاما مع القناعات الأخلاقية للولايات المتحدة وحسب، لكنه يصب في مصلحتها الموضوعية كذلك.

اقرأ للكاتب أيضا: من الخزعبلات إلى المؤامرات التي تتحقق بنفسها

هو سجال سياسي حاد يطفح بالاتهامات والاتهامات المبادلة بقصر النظر أو بالنفاق الشعبوي، وبالانقطاع عن الإرادة الشعبية أو بالسعي إلى التلاعب بها. ولكن فيما يتعدى الإطار المحلي، فإن تداعيات هذا السجال تطال تحديدا المواقف من الولايات المتحدة في العديد من الساحات الثقافية في أرجاء العالم، بما في ذلك الإطار الفكري السياسي العربي.

ليس مفاجئا أن تكون بعض التصريحات الصاعقة للرئيس الأميركي قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من المادة الترويجية الدعائية للمحطات والقنوات التي تلتزم موقفا معاديا للولايات المتحدة. وليس مستغربا أن تتكرر الإشارة في إطار البرامج الحوارية إلى المواقف الأميركية الجديدة على أنها انكشاف وحسب لفظاظة كانت قائمة بالفعل في السر وإذ بها اليوم تنتقل إلى العلن.

ولكن، بدلا من السير مع الزعم القائل إن هذه المرحلة تشكل تخليا للولايات المتحدة عن دورها المعنوي في العالم، فإنه بالإمكان إبراز ما تكشف عنه هذه المرحلة من استمرار لهذا الدور، ولأصالته، ولعدم ارتباطه بالاعتبارات الآنية.

ابتداء، حيث الأفعال لا الأقوال هي المعيار، ما لا شك فيه أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال الجهة المانحة الأولى عالميا في كافة البرامج الإنسانية والإغاثية. ورغم كلام الإدارة الحالية عن رغبتها بالتراجع في هذا الصدد، فإن ما يجري عمليا هو دفع الأطراف الدولية القادرة على المساهمة في هذه الجهود إلى المزيد من الانخراط، وليس التخلي الباتر عن هذه البرامج.

وعلى مستوى المواقف، لا شك أن كلام الرئيس الأميركي، والصادر عن رأس السلطة التنفيذية في نظام رئاسي بامتياز، يشكل إشعارا بتبديل للسياسات، إلا أنه لا بد من وضع هذا الكلام في أكثر من حالة في سياق الأسلوب الخطابي لهذا الرئيس، وموازنته بالتنويهات والتوضيحات الصادرة من طاقمه للتخفيف من وطأته.

نعم، القرار السياسي في الولايات المتحدة هو قرار رئاسي، لكن لترامب أسلوب معلن في تجاوز المعتاد لإرباك الخصم والمحاور، تاركا لفريق عمله التوضيح الكفيل بعدم خروج الحالة عن السيطرة.

يكثر في الولايات المتحدة وخارجها من يرى أن هذا الأسلوب لا يتماشى مع السعي إلى توطيد الاستقرار، بل يتسبب بأزمات، البعض منها عابر والبعض منها مستفحل. إلا أن الواقع الذي لا خلاف بشأنه هو أن الرئيس، بصفته رأس السلطة المنتخب والخاضع للمساءلة الدورية، له أن ينتهج ما يرتئيه، والحكم على أدائه يأتي في الانتخابات النصفية، والتي من شأنها تطويق أسلوبه من خلال تمكين الحزب المعارض له من السلطة التشريعية، ثم في الانتخابات الرئاسية التالية، والتي تقدم القرار الشعبي حول مدى نجاحه من فشله.

وفي حين أن السلطة التنفيذية، بغض النظر عن آراء العاملين فيها من الوزراء والمدراء والموظفين، مولجة بالسير وفق الرؤية والمواقف التي يحددها لها الرئيس، فإن السلطة التشريعية ليست مقيدة بآرائه ومواقفه.

والمعارضة اليوم إزاء التراجع والانكفاء وفق ما يدعو إليه الرئيس الأميركي لا تقتصر على الحزب الديمقراطي الخصم، بل تعلو أولا ضمن الحزب الجمهوري، أي حزب ترامب نفسه. فالمواقف المبدئية الأكثر جرأة والداعية إلى المحافظة على الدور المعنوي الأميركي في العالم تصدر عن بعض وجوه الحزب الجمهوري، دون أن يشكل ذلك تخليا عن دعم الرئيس في ملفات أخرى، دفاعية وضريبية ومالية.

اقرأ للكاتب أيضا: قضية طال تأجيل حلها: المعتقلون الإسلاميون في لبنان

وكما أن وصول دونالد ترامب إلى موقع الرئاسة في الولايات المتحدة هو تعبير عن انقسام سياسي وثقافي داخلي، فإنه يكشف عن اختلاف بالمواقف ضمن المجتمع والثقافة في الولايات المتحدة إزاء الخارج، وذلك على مستويات عدة، من الهجرة والهوية إلى جدوى التحالفات وطبيعة العلاقات الدولية. فالولايات المتحدة ليست كما أحاديا، وفيها من يعتبر أن مكانها الطبيعي هو في دورها القيادي الريادي المعنوي والأخلاقي إزاء قضايا العالم، وفيها من يرى أن همها يجب أن يكون أولا وقبل أي اعتبار آخر معالجة مشاكلها الداخلية، من باب "الأقربون أولى بالمعروف".

وصول من ينادي بالتركيز على الداخل لا ينفي أن أوساط واسعة في الولايات المتحدة لا تزال على القناعة بضرورة المحافظة على الموقع المبدئي عالميا

​​ووصول من ينادي بالتركيز على الداخل لا ينفي أن أوساط واسعة في الولايات المتحدة لا تزال على القناعة بضرورة المحافظة على الموقع المبدئي عالميا. وبما أن الإطار الفكري في الولايات المتحدة قائم على الحرية الصادقة والحق بالاختلاف، فإن هذه الأوساط لا تزال ناشطة وفاعلة، دون أن يكون لرؤيتها المتباعدة عن الموقف الرسمي الحالي أي تأثير على نشاطها. فالدور المعنوي للولايات المتحدة في العالم ليس حكرا على حكومتها، بل هو أولا من خلال النشاط المتواصل لمجتمع مدني أميركي يضع قيمه موضع التنفيذ، بغض النظر عن التوجهات الآنية للسلطة المنتخبة.

والآراء الناقدة والجارحة إزاء الولايات المتحدة من شأنها توظيف كلام ترامب، غير أن الواقع هو أنه، يوم لم يكن لهذا الكلام أي وجود، لم يفتقد أصحاب هذه الآراء إيجاد ما يدعو للطعن بالولايات المتحدة. فمواقف ترامب تسهل عمل المنظومة الإعلامية المعادية للولايات المتحدة، لكن حتى لو أن ترامب انقلب رأسا على عقب وأعلن تسخير كامل طاقات الولايات المتحدة لخدمة الآخرين، فإن هذه المنظومة لن تبدل من نقدها.

والدور المعنوي الطليعي للولايات المتحدة عالميا ليس نتاج خطة إعلامية، بل إن الإعلام الأميركي قاصر في تبيانه، ولا هو حصرا وليد سياسة أميركية عرضة للتبديل مع تداول السلطة، وإن كان للسياسات المتتالية أثرها فيه، بل هو ابتداء تعبير عن قيم عالمية لها في الولايات المتحدة من يعتنقها قولا وفعلا. قد تكون رئاسة ترامب تذكيرا للولايات المتحدة وللعالم بأنه لا إجماع حول كيفية تطبيق هذه القيم، أو حتى فهمها، إلا أن موقع هذه القيم في صلب الثقافة والمجتمع، لا تجاذبات السياسة، هو ما يثبت للولايات المتحدة موقعها المعنوي عالميا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.