أعلن ترامب أنه يريد الانسحاب من سورية "قريبا جدا"
أعلن ترامب أنه يريد الانسحاب من سورية "قريبا جدا"

بقلم جويس كرم/

مزايدات سياسية وتصريحات متناقضة ومفاوضات مالية عبر الهواء الإعلامي أطلقها دونالد ترامب في الأيام الاخيرة في إطار مراجعته الاستراتيجية للوجود العسكري الأميركي في سورية.

الخميس الفائت أعلن ترامب من ولاية أوهايو وأمام تجمع انتخابي أنه يريد الانسحاب من سورية "قريبا جدا". في اليوم نفسه ردت وزارة الخارجية أن ليس لديها "أي علم بخطط الرئيس"، فيما استغربت وزارة الدفاع هذا الكلام العلني خصوصا وأنه يأتي في وقت تراجع القيادة فيه العسكرية زيادة عدد القوات في منبج شمالا ردا على التهديدات التركية. كما يأتي تكثيف الانتشار الأميركي في منبج بعد تفجير الأسبوع الفائت الذي راح ضحيته جندي أميركي وآخر بريطاني في المدينة نفسها.

أي انسحاب أميركي مستعجل هو هدف في مرمى واشنطن قبل غيرها في المعترك السوري

​​وبين الأخذ والرد وفي ظل الصخب الإعلامي، عاد الموقف الأميركي يوم الاثنين إلى التأكيد أن الوجود العسكري في سورية والذي يقتصر على ألفي جندي، مستمر إلى حين هزيمة داعش بالكامل. أما الثلاثاء، فحاول الرئيس ترامب وبأسلوبه المعتاد تبني عدة مواقف بعضها قد يكون متناقضا في آن واحد. فبعد أن أكد أنه ملتزم بهزيمة داعش، كرر أنه يريد الانسحاب، وزاد ملحقا جديدا هذه المرة هو أنه إذا كانت المملكة العربية السعودية لا تريد منه الانسحاب من سورية فعليها أن "تدفع لكي نبقى هناك".

هذه التصريحات تلخص حجم تخبط الرئيس في ملفات السياسة الخارجية، عندما يتعلق الأمر بقضايا أمنية وجيواستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.

اقرأ للكاتبة أيضا: تصعيد أميركي مرتقب ضد إيران

اليوم، ما من شك أن المهمة الأميركية العسكرية في سورية يحيطها أسئلة، وحتى الوجود الجغرافي لـ 2000 عسكري أميركي في البلاد يصعب تصور بقائه في المدى البعيد. في الوقت نفسه فإن أي انسحاب أميركي مستعجل هو هدف في مرمى واشنطن قبل غيرها في المعترك السوري.

فالمال والسلاح والعتاد والنفوذ الذي استخدمته واشنطن في السنوات الأربع الأخيرة لتسليح قوات سورية الديموقراطية ستنتهي صلاحيته ساعة مغادرة الأميركيين الأرض. وسيفرض عدم جهوزية هذه القوات لحماية نفسها اضطرارها لنسج تحالفات مع نظام الأسد على الأرجح ومع روسيا وإيران لضمان بقائها.

واشنطن بقواعدها العسكرية وقواتها ليست لقاء مبلغ مادي أو إكراما لعيون هذا الطرف أو ذاك

​​النقطة الثانية المثيرة أيضا للاستغراب هي ربط ترامب وجود أميركا العسكري في سورية بتمويل نقدي من السعودية، أي الأربعة مليارات دولار التي تحدثت عنها واشنطن بوست الشهر الفائت وكان طلبها الرئيس الأميركي من الملك السعودي في كانون الأول/ديسمبر 2017.

أي أن ترامب يريد من الرياض دفع هذا المبلغ للمساعدة في إعادة الإعمار في سورية ما بعد داعش مقابل بقاء القوات الأميركية على الأرض. هذه المعادلة تتضارب مع المنطق الجيوسياسي لأميركا في المنطقة.

اقرأ للكاتبة أيضا: ترامب يقيل تيلرسون: الأسباب والتوقعات مع بومبيو

فواشنطن بقواعدها العسكرية وقواتها ليست في سورية أو اليمن أو العراق أو البحرين أو قطر أو الكويت أو جيبوتي لقاء مبلغ مادي أو إكراما لعيون هذا الطرف أو ذاك. بل الوجود الأميركي كان وما زال لكسب نفوذ وحماية مصالح جيواستراتيجية لواشنطن، وإذا انسحبت واشنطن من المنطقة بسبب الأعباء المادية، فهناك من سيملأ سريعا هذا الفراغ وعلى حساب الولايات المتحدة قبل أي قوة أخرى. فها هي إيران في العراق، وها هي الصين في باكستان، وروسيا تعود من بوابة أفغانستان. أما القارة الأفريقية فباتت ساحة متنازع عليها بين قوى عالمية مع أفضلية اقتصادية للصين هناك.

هذه الوقائع على ترامب فهمها، وهو كان اصطدم بوزيري الدفاع جايمس ماتيس والخارجية سابقا ريكس تيلرسون حين حاولا شرح أسس النظام العالمي له بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن مرونته السياسية وتغيير مواقفه حول الحرب في أفغانستان، والوجود الأميركي الضخم هناك، وحول حلف الشمال الأطلسي (الناتو) وروسيا، تعطي الانطباع بأن كلامه حول سورية هو من باب الضغط لزيادة المساعدات الإقليمية وليس الانسحاب السريع.

وسيكون على القيادة العسكرية والديبلوماسية الأميركية في اجتماعات البيت الأبيض المرتقبة حول سورية إقناع الرئيس بجدوى البقاء في المدى المنظور في شمال وشرق سورية وبغض النظر عن حجم التبرعات الإقليمية أو كلفة العمليات العسكرية على الخزانة الأميركية. فمعارك منبج، حيث خططت داعش منذ عامين لضرب باريس وبروكسل، ليست كمناقصات وول ستريت، وأرقام ترامب وجداوله الانتخابية تثبت اليوم أنها أقصر نظرا من حسابات طهران وموسكو وأنقره لتوسيع نفوذهم الإقليمي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.