"هل من مصير أشد قتامة من أن يحكم كل من هؤلاء الثلاثة بلدا؟" (أ ف ب)
"هل من مصير أشد قتامة من أن يحكم كل من هؤلاء الثلاثة بلدا؟" (أ ف ب)

بقلم حازم الأمين/

على المرء أن يتخيل سورية في أعقاب الانسحاب الأميركي منها. المسألة تستحق قدرا من الخيال. سورية ستكون موزعة بين نفوذ كل من موسكو وطهران وأنقرة. هل من مصير أكثر بؤسا من هذا؟ ترسانة انحطاط أخلاقي تعوزها كوريا الشمالية، موسكو وطهران وأنقرة، فلاديمير بوتين وعلي خامنئي ورجب طيب أردوغان. حكام سورية الفعليون في أعقاب الانسحاب الأميركي، وهم على كل حال حكامها اليوم أيضا. كل ما يمثل هؤلاء من قيم استبداد وظلام وفساد يتولى وسيتولى على نحو مضاعف حكم سورية، وإدارة دفة الحرب فيها.

هل من مصير أشد قتامة من أن يحكم كل من هؤلاء الثلاثة بلدا، أن يشتركوا في حكمه وأن يتوزعوا حصصهم من الدماء فيه؟ وأن يبعثوا فيه قيمهم واستبدادهم؟ بلد متنازع بين أمزجة ثلاث ديكتاتوريات، هم الأكثر انتهاكا لحقوق مواطنيهم قبل أن يتولوا أمر مواطني بلد رابع.

ولكل من هذه البلاد الثلاثة حربه الكبرى الخاصة في سورية. إيران إمبراطورية وليدة تطمح إلى حجز مكان لها على خطوط الحرب والسلم مع إسرائيل، وهي اليوم على مشارف مبتغاها. وتركيا تتحفز للانقضاض على خط حدودها مع سورية والبالغ طوله نحو 900 كيلومترا، وروسيا تدير توازن العلاقة بين حليفتيها.

صحيح أننا نعيش في سورية حربا منذ أكثر من خمس سنوات، إلا أن حروبا جديدة فيها على الأبواب

​​الانسحاب الأميركي سيضاعف هذا الواقع. لكن خطوة إلى الوراء بعيدا عن هذا الواقع تتيح قدرة على التقاط مشهد مذهل. فنحن أمام خريطة بؤس لا سابق لها. فإمبراطوريات الردة والموت التقت في سورية، ولن يكون لقاؤها سوى مناسبة لمزيد من الحروب ومن الموت ومن المساومات القاتلة.

اقرأ للكاتب أيضا: وجه الشبه بيننا وبين تخلفنا

أنقرة ساومت طهران على تسليمها الغوطة مقابل ضوء أخضر روسي لدخول جيشها إلى عفرين. وغدا ستبدأ طهران زحفها على جنوب سورية فيما تل أبيب تنتظر ساعة الصفر للقضاء على المحاولة. موسكو من جهتها تدير ما تبقى من "الهُدن" وترسم توازنات لا تقيم فيها وزنا للدماء السورية التي طوبها بشار الأسد باسم فلاديمير الكبير.

لم يكن ينقص سورية سوى إعلان ترامب نيته الانسحاب منها، والإعلان وإن لم يكن واضحا وحاسما إلا أنه دفعنا إلى التأمل بالمشهد السوري على نحو مختلف. فنحن كنا أضعنا بوصلة هذا المشهد عبر غرقنا بالتفاصيل.

الميكرو مأساة حجبت عنا الماكرو مأساة، والأخيرة سابقة تاريخية فعلا. فإذا كانت المأساة الميكرو هي ما جرى في الغوطة أو ما جرى في عفرين، فإن الماكرو مأساة السورية تتمثل في أن ذلك البلد تتحكم فيه قوى الشر الثلاث في العالم. وكل قوة من هذه القوى الثلاث لها حربها الخاصة، وكل واحدة منها "تحترم" حرب الأخرى ولا تتدخل فيها ولا تعيقها.

طهران لا تمانع هجوما تركيا على أكراد سورية، وأنقرة غير معنية بحرب إسرائيلية إيرانية في جنوب سورية. وإذا كان لموسكو حصة هنا وحصة هناك، فهي تدير نوعا آخر من العلاقات مع تل أبيب لا تمانعه طهران ولا تسعى إلى مخاتلته، وفيما تتفهم تل أبيب حسابات موسكو، تتيح الثانية لسلاح جو الأولى بأن يستهدف مواقع أعدائه الإيرانيين، وهم حلفاؤها.

الغرب المنكفئ، أخلى ساحتنا إلى قوى الشرق، وهذه الأخيرة ما زالت تعيش أحلام عودة إلى ما قبل عصر التنوير

​​الجميع قابل بقواعد اللعب القذر بالدماء السورية. عدو حليفي ليس عدوي، وحليفه ربما كان عدوي. لا أثر للأخلاق ولمنطق العلاقات المعهودة بين الدول والجماعات، وليس صدفة أن تلتقي إمبراطوريات الشر الثلاث في هذه اللحظة السورية.

فنحن إزاء نوع من الأحلام الإمبراطورية المنبعثة من بين ركام الوهن الغربي. الغرب صاحب بعض القيم في العلاقات الدولية المبنية على شروط مختلفة. هذا الغرب المنكفئ، أخلى ساحتنا إلى قوى الشرق، وهذه الأخيرة ما زالت تعيش أحلام عودة إلى ما قبل عصر التنوير.

إنه عصر القوة العارية من أي ادعاء أخلاقي أو قيمي. هذه القيم التي كانت حاصرت الأحلام الإمبراطورية في طريقها إلى الموت. الغرب نفسه بدأ يقبل بموته في الشرق. بدأ يقبل بواقع رسمه بوتين في سورية واستدعى شركاء يتولون معه المهمة فيها.

اقرأ للكاتب أيضا: مثلث الردة اللبناني: باسيل ونصرالله والحريري

قرار الانسحاب الأميركي، وإن لم يكن واقعيا إلا أنه مؤشر إلى أنه احتمال وإلى أنه أفق يمكن بلوغه. لا أحد يمنع واشنطن من الانسحاب من سورية طالما أن العالم قبل بمهمة بوتين فيها. لا أحد يمنع أردوغان من القضاء على الأكراد طالما أن أحدا لم يمانع احتلاله عفرين. لا أحد يمنع وصول الإيرانيين إلى جنوب سورية واشتعال حرب هائلة هناك طالما أن طموح واشنطن بحرب مع إيران تؤمنه تلك الخطوة.

جميع السيناريوهات ممكنة طالما أن سورية موزعة بين نفوذ إمبراطوريات الشر الثلاث.

صحيح أننا نعيش في سورية حربا منذ أكثر من خمس سنوات، إلا أن حروبا جديدة فيها على الأبواب. وهي حروب أشد عنفا وعابرة للحدود ولا يمكن ضبط ضفافها.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.