بقلم حازم الأمين/
على المرء أن يتخيل سورية في أعقاب الانسحاب الأميركي منها. المسألة تستحق قدرا من الخيال. سورية ستكون موزعة بين نفوذ كل من موسكو وطهران وأنقرة. هل من مصير أكثر بؤسا من هذا؟ ترسانة انحطاط أخلاقي تعوزها كوريا الشمالية، موسكو وطهران وأنقرة، فلاديمير بوتين وعلي خامنئي ورجب طيب أردوغان. حكام سورية الفعليون في أعقاب الانسحاب الأميركي، وهم على كل حال حكامها اليوم أيضا. كل ما يمثل هؤلاء من قيم استبداد وظلام وفساد يتولى وسيتولى على نحو مضاعف حكم سورية، وإدارة دفة الحرب فيها.
هل من مصير أشد قتامة من أن يحكم كل من هؤلاء الثلاثة بلدا، أن يشتركوا في حكمه وأن يتوزعوا حصصهم من الدماء فيه؟ وأن يبعثوا فيه قيمهم واستبدادهم؟ بلد متنازع بين أمزجة ثلاث ديكتاتوريات، هم الأكثر انتهاكا لحقوق مواطنيهم قبل أن يتولوا أمر مواطني بلد رابع.
ولكل من هذه البلاد الثلاثة حربه الكبرى الخاصة في سورية. إيران إمبراطورية وليدة تطمح إلى حجز مكان لها على خطوط الحرب والسلم مع إسرائيل، وهي اليوم على مشارف مبتغاها. وتركيا تتحفز للانقضاض على خط حدودها مع سورية والبالغ طوله نحو 900 كيلومترا، وروسيا تدير توازن العلاقة بين حليفتيها.
الانسحاب الأميركي سيضاعف هذا الواقع. لكن خطوة إلى الوراء بعيدا عن هذا الواقع تتيح قدرة على التقاط مشهد مذهل. فنحن أمام خريطة بؤس لا سابق لها. فإمبراطوريات الردة والموت التقت في سورية، ولن يكون لقاؤها سوى مناسبة لمزيد من الحروب ومن الموت ومن المساومات القاتلة.
اقرأ للكاتب أيضا: وجه الشبه بيننا وبين تخلفنا
أنقرة ساومت طهران على تسليمها الغوطة مقابل ضوء أخضر روسي لدخول جيشها إلى عفرين. وغدا ستبدأ طهران زحفها على جنوب سورية فيما تل أبيب تنتظر ساعة الصفر للقضاء على المحاولة. موسكو من جهتها تدير ما تبقى من "الهُدن" وترسم توازنات لا تقيم فيها وزنا للدماء السورية التي طوبها بشار الأسد باسم فلاديمير الكبير.
لم يكن ينقص سورية سوى إعلان ترامب نيته الانسحاب منها، والإعلان وإن لم يكن واضحا وحاسما إلا أنه دفعنا إلى التأمل بالمشهد السوري على نحو مختلف. فنحن كنا أضعنا بوصلة هذا المشهد عبر غرقنا بالتفاصيل.
الميكرو مأساة حجبت عنا الماكرو مأساة، والأخيرة سابقة تاريخية فعلا. فإذا كانت المأساة الميكرو هي ما جرى في الغوطة أو ما جرى في عفرين، فإن الماكرو مأساة السورية تتمثل في أن ذلك البلد تتحكم فيه قوى الشر الثلاث في العالم. وكل قوة من هذه القوى الثلاث لها حربها الخاصة، وكل واحدة منها "تحترم" حرب الأخرى ولا تتدخل فيها ولا تعيقها.
طهران لا تمانع هجوما تركيا على أكراد سورية، وأنقرة غير معنية بحرب إسرائيلية إيرانية في جنوب سورية. وإذا كان لموسكو حصة هنا وحصة هناك، فهي تدير نوعا آخر من العلاقات مع تل أبيب لا تمانعه طهران ولا تسعى إلى مخاتلته، وفيما تتفهم تل أبيب حسابات موسكو، تتيح الثانية لسلاح جو الأولى بأن يستهدف مواقع أعدائه الإيرانيين، وهم حلفاؤها.
الجميع قابل بقواعد اللعب القذر بالدماء السورية. عدو حليفي ليس عدوي، وحليفه ربما كان عدوي. لا أثر للأخلاق ولمنطق العلاقات المعهودة بين الدول والجماعات، وليس صدفة أن تلتقي إمبراطوريات الشر الثلاث في هذه اللحظة السورية.
فنحن إزاء نوع من الأحلام الإمبراطورية المنبعثة من بين ركام الوهن الغربي. الغرب صاحب بعض القيم في العلاقات الدولية المبنية على شروط مختلفة. هذا الغرب المنكفئ، أخلى ساحتنا إلى قوى الشرق، وهذه الأخيرة ما زالت تعيش أحلام عودة إلى ما قبل عصر التنوير.
إنه عصر القوة العارية من أي ادعاء أخلاقي أو قيمي. هذه القيم التي كانت حاصرت الأحلام الإمبراطورية في طريقها إلى الموت. الغرب نفسه بدأ يقبل بموته في الشرق. بدأ يقبل بواقع رسمه بوتين في سورية واستدعى شركاء يتولون معه المهمة فيها.
اقرأ للكاتب أيضا: مثلث الردة اللبناني: باسيل ونصرالله والحريري
قرار الانسحاب الأميركي، وإن لم يكن واقعيا إلا أنه مؤشر إلى أنه احتمال وإلى أنه أفق يمكن بلوغه. لا أحد يمنع واشنطن من الانسحاب من سورية طالما أن العالم قبل بمهمة بوتين فيها. لا أحد يمنع أردوغان من القضاء على الأكراد طالما أن أحدا لم يمانع احتلاله عفرين. لا أحد يمنع وصول الإيرانيين إلى جنوب سورية واشتعال حرب هائلة هناك طالما أن طموح واشنطن بحرب مع إيران تؤمنه تلك الخطوة.
جميع السيناريوهات ممكنة طالما أن سورية موزعة بين نفوذ إمبراطوريات الشر الثلاث.
صحيح أننا نعيش في سورية حربا منذ أكثر من خمس سنوات، إلا أن حروبا جديدة فيها على الأبواب. وهي حروب أشد عنفا وعابرة للحدود ولا يمكن ضبط ضفافها.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)