ولي العهد السعودي خلال زيارة الأمم المتحدة (أ ف ب)
ولي العهد السعودي خلال زيارة الأمم المتحدة (أ ف ب)

بقلم منصور الحاج/

بين الحين والآخر، يخرج علينا كتاب وصحافيون أميركيون بمقالات يكيلون فيها المديح لـ "الإصلاحات" التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وعادة ما يكتبون تلك المقالات بعد قيامهم بزيارة قصيرة إلى المملكة يحكون فيها عن قدراتهم الخارقة التي مكنتهم من التحقق من جدية ورغبة بن سلمان في إحداث نقلة نوعية في تاريخ البلاد والانتقال بها نحو المدنية والتحضر والتصدي للتطرف الديني وتمكين المرأة وكيف أنهم وقفوا على حقيقة التأييد الواسع الذي يحظى به الأمير الشاب وشعبيته لدى مختلف شرائح المجتمع، من خلال المقابلات التي أجروها مع مواطنين التقوا بهم مصادفة في الشوارع والمراكز التجارية.

ويسهب أولئك الكتاب في التعبير عن إعجابهم بالأمير الذي يدير بلاده بقبضة من حديد وينتهج سياسة الانفراد بالسلطة وتقريب الموالين والمطبلين وإخراس أصوات المعارضين ومعاقبة الصامتين.

يسعى محمد بن سلمان إلى حماية نفسه من أقاربه ومن شعبه

​​لكنهم في الوقت نفسه يعارضون سياسات الرئيس دونالد ترامب التي لا تختلف كثيرا عما يقوم به الأمير الشاب الأمر الذي يكشف أن مديحهم وإطراءهم ليس نابعا عن المبادئ والقيم التي يؤمنون بها وإنما لحاجة في أنفسهم أو ربما حساباتهم البنكية أو الهدايا التي تم إغداقها عليهم بسخاء بالغ.

ومما لا يجرؤ أولئك الكتاب وغيرهم على كتابته عن محمد بن سلمان هو أنه يقدم نفسه كمحارب للفساد لكنه في الوقت نفسه ينفي عن نفسه تهمة الفساد بحجة أنه ابن عائلة ثرية تملك أراض شاسعة وثروة ضخمة حتى قبل أن تستولي على الحكم في شبه الجزيرة العربية.

اقرأ للكاتب أيضا: فيلم "النمر الأسود" بين صناعة الأمل ومداعبة الأحلام

فيقول متبجحا في الحوار الذي أجرته معه قناة "سي بي أس" إنه ينفق من حر ماله على الشعب أكثر مما ينفق على نفسه. ربما يخجلون من كتابة أنه يعامل شعبه كما يعامل الآباء أطفالهم فيمنحهم بعض حقوقهم ويمنع عنهم حقوقا أخرى أكثر أهمية.

لن يرضى أي من أولئك الكتاب أن تتعامل معه حكومته بهذا الشكل فلا أدري لماذا يرضون ذلك للشعب السعودي؟

لا يجرؤ أولئك الكتاب على القول إن الأمير الشاب لا يسمح بأي صوت حر بالتعبير عن رأيه والاعتراض على سياساته ورؤيته لمستقبل البلاد وأنه يبرر اعتقاله للإصلاحيين ورجال الدين بـ "الخصوصية" التي استخدمها أسلافه لقمع المرأة وحرمانها من حقوقها.

لا يجرؤون على القول إنه يقف ضد أي إصلاح سياسي من شأنه أن يمنح المواطنين حقوقا سياسية يستطيعون من خلالها اختيار ممثليهم ومحاسبتهم.

لا يجرؤون على القول إن ابن سلمان، الذي يتهم تنظيم الإخوان المسلمين بغسل أدمغة الشباب في بلاده، لا يزال يفرض على الطلاب في المراحل الدراسية المختلفة دراسة كتب محمد بن عبد الوهاب التي تكفر الشيعة والصوفيين والبهائيين والأحمديين وتعادي باسم "الولاء والبراء" أصحاب الأديان والعقائد الأخرى.

ويقلل محمد بن سلمان من فداحة الأضرار التي أحدثها نشر بلاده للفكر الوهابي في جميع أنحاء العالم عبر المدارس القرآنية والمساجد وما سببه ذلك من صراعات دينية بين أتباع المدارس الفقهية المختلفة نسبة لادعاء الوهابيين امتلاك الحق المطلق وأنهم الفرقة الناجية وأن عقيدتهم هي أصح العقائد.

وبحسب تصريحه لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن تصدير الوهابية لم يكن سوى ورقة من الأوراق التي تم استخدامها في الحرب الباردة حينما طلب حلفاء السعودية منها استخدام ثروتها للتصدي لتمدد نفوذ الاتحاد السوفيتي إلى الدول الإسلامية.

فمن المسؤول إذن بحسب هذا التفسير عن الأرواح التي أزهقت بسبب الأفكار التكفيرية الدخيلة التي صدرتها السعودية إلى المسلمين، مستغلة في ذلك مكانتها الدينية، لكنها في الحقيقة لم تقم بذلك لنشر الدين وإنما استجابة لمطالب حلفائها؟

وما الذي يضمن لنا أن التوجه "الإصلاحي" الحالي الذي يتباه ابن سلمان وادعاءه أنه يسعى إلى إعادة الإسلام المعتدل، لا يصب ضمن مطالب الحلفاء بـ "لبرلة" الإسلام بسبب الصراع الذي يخوضونه مع التنظيمات الجهادية والجماعات الإسلاموية.

تنامت ظاهرة كراهية الأجانب في السعودية وتعددت الحملات المطالبة بترحيل الأجانب

​​ومما لا يقال عن محمد بن سلمان أيضا إنه يسعى من خلال تقربه إلى السلطات في أميركا ومحاولاته عقد صفقات سلاح بمبالغ خيالية وسعيه الحثيث من أجل إقناع الشركات الأميركية للاستثمار في بلاده إلى حماية حكمه وتعزيز قبضته على البلاد.

فهو أحوج ما يكون إلى ذلك لأنه لا يحظى بالتأييد من قبل أبناء عمومته الأكثر منه علما وخبرة في إدارة شؤون البلاد الذين أقصاهم وجردهم من مناصبهم وسجن بعضهم ومنع آخرين من مغادرة البلاد.

إن السلطة المطلقة التي يملكها محمد بن سلمان مصدرها والده الذي يرى أن ابنه هو الأقدر على ترسيخ حكم آل سعود وحصر الملك في سلالته بدون الحاجة إلى إشراك الشعب في الحكم أو إرضاء الأمراء كما جرت العادة في العهود السابقة.

اقرأ للكاتب أيضا: قراءة في الرؤية الإصلاحية لماجد نواز والإمام التوحيدي

إن محمد بن سلمان يسعى إلى حماية نفسه من أقاربه ومن شعبه. فبدلا من الحرص على مصالحة أفراد عائلته ومنح أبناء شعبه حقوقهم الأساسية وإطلاق سراح سجناء الرأي وبدء حوار وطني، يراهن ابن سلمان على الحماية الأميركية بحجة المحافظة على استقرار الأوضاع وأمن المصالح الأميركية ومنابع النفط.

وأخيرا، لم يجرؤ أي من أولئك الكتاب الأميركيين، الذين يدافعون بشراسة عن حقوق المهاجرين في بلادهم، على الحديث عن الظلم والاضطهاد والاستغلال الذي يتعرض له الأجانب في السعودية، خاصة بعد وصول محمد بن سلمان إلى المنصب وإطلاق رؤية 2030 التي فتحت الباب على مصراعيه للعنصريين. فتنامت ظاهرة كراهية الأجانب وتعددت الحملات المطالبة بترحيل الأجانب، بمن فيهم مواليد السعودية الذين يعيشون في البلاد منذ عقود، وسعودة الوظائف التي يشغلونها كما تضاعفت رسوم تجديد رخص الإقامة وتمت إضافة رسوم على المرافقين تتضاعف كل عام.

وخلاصة القول إن محمد بن سلمان يسعى، من خلال استقطابه لكتاب الرأي الأميركيين والتعاقد مع جماعات العلاقات العامة، إلى الترويج لنفسه وللإصلاحات الشكلية التي يقوم بها في السعودية. فيما يحرص الكتاب على مدح ما يمكن مدحه وغض النظر عن المطالب الحقيقية والحقوق الأساسية التي يتمتعون بها في بلادهم ولا يسمحون لأحد بتجريدهم منها أو مقايضتهم عليها.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.