اعتصام ضد العنصرية في بريطانيا
اعتصام ضد العنصرية في بريطانيا

بقلم محمد المحمود/

يختلف المجتمع الحديث عن المجتمع القديم؛ من حيث البنية العامة للعلاقات التفاعلية على مستوى الداخل/ داخل المجتمع الواحد، وعلى مستوى الخارج/ خارج المجتمع أيضا.

المجتمع القديم هو ـ في الأغلب الأعم ـ مجتمع مغلق على الخارج؛ بقدر ما هو منفتح على الداخل. أي أن العلاقات بين أفراده، أولئك الذين تذوب فرديتهم في العام والكلي، تتميز بمستوى عال من الانفتاح الذي يسمح بانكشاف الكل أمام الكل، ومعرفة الكل بالكل، ومن ثم؛ ثقة الكل بالكل. يقابل هذا الانفتاح على الداخل انغلاق ارتيابي بالخارج/ بالغريب الذي يصبح ـ مع تطاول الزمن الانغلاقي ـ مجهولا، وبالتالي؛ محل ريبة وتوجس، وربما عداء صريح.

من هنا يمكن ـ بشيء من التعميم التغليبي ـ وصف المجتمع القديم بالمجتمع العنصري أصالة، أي المجتمع الذي يتشكل بفعل التضامن ذي النفس العنصري الذي غالبا ما يقوم على أساس رابطة الدم، تلك الرابطة القدرية الأزلية المغلقة بطبيعتها، والتي لا مجال فيها للاختيار؛ قبولا أو رفضا. وبهذا نرى كيف يعكس المجتمع العنصري، أو المجتمع الذي ينطوي على كثير من التفاعلات العنصرية، حالة بدائية جدا، مرحلة أولى من مسيرة التطور الإنساني؛ حتى وإن تموضع في سياق حديث، بل حتى وإن تموضع في سياق حداثي أو ما بعد حداثي.

مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية التي لا تزال تنطوي على كثير من الرؤى العنصرية تأبى إلا أن تعاند حقائق واقعها اللاإنساني

​​​​أيا كانت طبيعة المجتمعات العنصرية، فهي في الحقيقة تعاني من إعاقة ذهنية/ عاطفية في تصورها للإنسان، حيث نجدها تمارس تصنيفا للإنسان بناء على ما هو "غير إنساني".

الإنسان وجد أولا كإنسان، ثم اكتسب لأسباب إرادية وغير إرادية صفات إضافية، دينية ومذهبية وعرقية وجغرافية/ وطنية وجنسية وملامح جسدية...إلخ. ولو تأملنا هذه الصفات الإضافية الطارئة على الأصل الإنساني؛ لوجدناها لا تغير شيئا ذا بال في حقيقة ولا في مستوى الصفة الإنسانية الأولية/ الأصيلة التي اكتسبها الإنسان بمحض وجوده العيني/ المادي المباشر في الواقع.

اقرأ للكاتب أيضا: فلسطين بين الاحتلال ومشروعية النضال

المجتمعات العنصرية تنظر في اتجاه معاكس، اتجاه مشاكس للوجود الإنساني الأولي. إنها تجعل من الصفات الإضافية، بل من أحدها، الأصل الحاكم على الأصل الإنساني، بينما يصبح "الأصل الإنساني" إزاء هذه الصفات الإضافية مجرد فرع هامشي ملحق بالأصل المدعى افتراضا؛ إلى درجة يستطيع بها هذا الأصل المدعى/ المفترض إلغاء "الأصل الإنساني".

فمثلا، يمكن للاختلاف الجنسي أن يجعل الذكر العنصري يمارس عنصريته ضد المرأة، فيلغي إنسانيتها أو جزء من إنسانيتها (وهو الأصل الإنساني هنا)، بقوة الصفة الإضافية، الذكورة. وبالتالي يتصرف على أساس أن من ليس ذكرا فليس إنسانا.

وكذلك الأمر في الاختلاف الديني أو المذهبي، فالمسلم العنصري يرى الاستحقاق الإنساني للمسلم فقط، ومن ليس بمسلم فليس له مطلق الصفة الإنسانية. والمسلم السني العنصري يرى الاستحقاق الإنساني للمسلم السني فقط، ومن ليس بمسلم سني فليس له مطلق الصفة الإنسانية.

وكذلك الأمر في الوطنية، إذ يرى الوطني العنصري أن المنتمين لوطنه هم وحدهم الأحق بمطلق الصفة الإنسانية، ومن ليسوا من مواطنيه، فإنسانيتهم ناقصة/ غير معتبرة. ولهذا تراه يسمح بالتجاوزات اللاإنسانية بحقهم دونما تأنيب من ضمير. وقس على ذلك بقية الصفات الإضافية/ الانتماءات الإضافية التي يلغي بها العنصري الأصل الإنساني بتشريطه لمطلق الإنسان.

المجتمع الحديث الذي ينتمي إلى عالم الحداثة هو مجتمع إنساني بالضرورة، لا بضرورة التتابع الزمني، بل بضرورة المرجعية ذات الطابع الإنساني، وتحديدا مرجعية تراث عصر الأنوار الأوروبي الذي رفع شعار الإنسانية بـ"حريتها" و"مساواتها"، و"إخائها"؛ بعد أن نقل الإنسان من الهامش إلى مركز.

طبعا، لم يحدث هذا بطفرة استثنائية، ولا على نحو مفاجئ، وإنما كان عصر الأنوار، وخاصة مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية بعقدين أو ثلاثة وخلالها، هو عصر الإعلان عن أولوية الحق الإنساني وتأكيده على نحو مكثف وصاخب ودافع لمسارات عملية بقوة دفع الحراك الثوري.

لكن كل هذا لم يحدث من فراغ، فجذوره الحقيقية ترجع إلى بدايات الحركة الإنسانية/ الهيومانية في القرن الثالث عشر/ عصر النهضة الإيطالية التي مثلت بداية الانبعاث الأوروبي/ الغربي.

على أية حال، لا يعني هذا أن كل المجتمعات الحديثة هي بالضرورة ـ مجتمعات إنسانية متجاوزة لكل صور التعنصر اللاإنساني، وإنما تأكيدنا على إنسانية هذه المجتمعات الحديثة يعني وباختصار أمرين متعاضدين في هذا السياق:

الأول: أنها أرقى المجتمعات من زاوية تحقق المستوى الإنساني العابر لكل الانتماءات. إنها بلا شك تمثل قمة الهرم الإنساني في هذا المجال؛ رغم بعض صور القصور التي تطال هذا الجانب أو ذاك سواء ما يدخل في باب الإرادات الواعية، أو يدخل في باب النسبية المرتبطة بالعالم اللاواعي للإنسان.

الثاني: أنها من حيث كونها المجتمعات الأرقى، تقع في سياق تطور مطرد لتحقق مستويات إنسانية أعلى فأعلى؛ جراء اعترافها الصريح والشجاع بمكامن القصور في مستوي الرؤية وفي مستوى العمل؛ رغم كونها تعي أنها الأفضل. إنها لا تنظر إلى موقعها من زاوية مقارنة ذاتها بالآخرين/ بالعالم المتخلف/ اللاإنساني/ العنصري، بل من زاوية تجاوز ذاتها في مسيرة التحقق الإنساني.

المجتمعات العنصرية تنظر في اتجاه معاكس، اتجاه مشاكس للوجود الإنساني الأولي

​​​​هنا يتضح الفرق بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الحديثة. فإذا كانت هذه المجتمعات الحديثة التي أثبتت جدارتها الإنسانية تعترف بكل الخروقات العنصرية/ الإنسانية التي تعيب مسيرتها في الرؤية والعمل؛ فإن مجتمعاتنا العربية/ الإسلامية التي لا تزال تنطوي على كثير من الرؤى العنصرية ـ وما يتبعها من ممارسات عنصرية ـ تأبى إلا أن تعاند حقائق واقعها اللاإنساني. إنها تأبى الاعتراف بالتحيزات العنصرية التي تخترق ثقافتها ومسلكها، ومن ثم فهي أبعد ما تكون عن اجتراح الحلول لمعالجتها. والغريب أنها إذا ما تقدمت لمقاربة تحيزاتها كإشكاليات في الفكر أو في الواقع تحت ضغط الإدانات الصادرة عن ثقافة/ مجتمعات أخرى ـ تجدها تسارع إلى تبريرها، بل وتشريعها، بدل أن تعترف بها وتقترح الحلول للقضاء عليها.

إنها أزمة وعي عام، وعي مهيمن على مجمل التصورات في مجتمعاتنا. لا أحد يستطيع الإنكار حقيقة، ولا أن ينكر حالة الإنكار. يستطيع أي مراقب أن يلحظ هذا المسلك التبريري/ الاعتذاري لدينا كعرب وكمسلمين ـ فيما يخص ملف التحيزات المصنفة بأنها عنصرية.

اقرأ للكاتب أيضا: التصور العربي للاستعمار الغربي

إنهم ينكرون حقيقة أنهم يمارسون العنصرية، ينكرونها بأي شكل وعلى أي مستوى! لكن، بأدنى تأمل للواقع العربي، وخاصة في بعض مجتمعاته التقليدية، تجد أن أهم محددات/ مشخصات العنصرية المعترف بها في العالم الأول، تتوفر فيها بوضوح، وبكثافة تطمس عين الشمس؛ كما يقال. فهي مجتمعات تقليدية تنضح بـ:

  1. انغلاق ثقافي- نفسي، يضيق بالآخر. وطبعا يحاول العنصريون تبرير هذا الانغلاق بمبررات شتى، بعضها قد يكون حقيقة لا وهما، كالمنافسة على الموارد/ الخيرات/ الميزات، وبعضها الآخر ليس أكثر من أوهام وتوجسات/ تخوفات. ومعروف في السلوك الطبيعي للإنسان، الذي يجد نفسه واضحا/ صريحا في السلوك الحيواني، أن الحيوانات تستنفر كل قواها لرد كل من يقتحم مجالها الحيوي الذي تعتاش منه وبه، وتنعم بمميزاته. لكن ـ وهنا تظهر معيارية الرقي الإنساني ـ الإنسان لا يطمح أن يكون حيوانا محضا، لا يطمح أن يتطابق مع الحيوان، فهو، وبالرغم من المشترك الحيواني الملازم له ضرورة، يسعى للتمايز عنه، وتجاوز قاع المشترك الحيواني إلى آفاق إنسانية تضمن له "فرادة نوعية" على مستوى همه الوجودي المرتبط بشرطه الإنساني تحديدا.
  2. ضيق أفق/ وعي قصير المدى. فالعنصري يرى الأمور بمؤشر ارتداداته الآنية والمباشرة. فهو لا يرى "ثراء التنوع" في مداه الأبعد. مثلا، يهاجم من يرى أو يظن أنه يقاسمه لقمةَ العيش (ربما في حدود مرتبه الشهري!) ولا يرى ما هو أبعد من هذا، كتحولات الأجيال، والتنوع الذي قد يخلق إضافات مهمة على مستوى نوعية الثقافة = نوعية الحياة...إلخ.
  3. أنانية مباشرة. وتتضح هذه الأنانية في معاينة الأشياء/ الأحداث من وجهة نظر قاصرة مرتبطة بمصالح شخصية ضيقة، يتحول الوطن من خلالها، لا إلى مجال للبذل والجد والإبداع والإنتاج، وإنما إلى ما يشبه الضمان الاجتماعي المطلوب منه توفير مميزات مجانية أو شبه مجانية، أي بما يشبه رعاية الآباء للأبناء. ومن هنا يأتي مبرر رفض "الغرباء" في العنصرية التي نحن بصددها.
  4. مفهوم اختزالي محدود للوطن ولمفهوم المواطنة. وهذا المفهوم تسرب إلى وعي العنصريين من صور الانتماءات التقليدية، وخاصة الانتماء القَبلي. فهم يتصورون ـ بصورة واعية أو غير واعية ـ أن الوطن يجب أن يكون كيانا مغلقا؛ كما هو حال "القبيلة" التي هي كيان مغلق، ولا يمكن أن تحتضن "الغرباء" فتنسبهم إليها؛ وإلا فقدت مشروعية روابطها، ومن ثم وظائفها في الحال.
  5. عجز عن المنافسة، يقود إلى إحباط متحقق، إحباط يجد التنفيس عنه في السلوك العنصري. وحتى لا نجرح مشاعر العنصريين لدينا؛ نطرح مثالا من بعيد، وليكن من ألمانيا. تخيل مواطنا ألمانيا عاطلا أو شبه عاطل، يسير في أحد شوارع برلين، وهنا يرى مطعما تركيا ناجحا، ويبدو من شدة الازدحام عليه أنه يحقق أرباحا عالية. في هذه الحال، أمام هذا المواطن الألماني خياران: إما أن يسعى بنفسه أو بالاشتراك مع ممثلين له لافتتاح مطعم ينافس هذا المطعم، ويتدرج في النجاح حتى يتجاوزه، وإما أن يرفع صوته غاضبا مناديا بطرد هؤلاء الأتراك بوصفهم مستغلين مضرين بألمانيا...إلخ، ومن ثم فهم يشكلون عائقا أساسيا لنجاحه ونجاح أمثاله. الخيار الأول خيار غير عنصري، وهو خيار الناجحين الواثقين من أنفسهم، بل وهو الخيار الذي يثري ـ بتصاعد مستويات التنافس ـ ألمانيا. بينما الخيار الثاني عنصري، يسعى لإفشال الآخرين؛ لأنه نابع من الفشل، إنه يسعى لإفشالهم/ إلغائهم كشرط لنجاحه المتوهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.