بقلم جمال أبو الحسن/
المجتمع البشري، ومنذ الثورة الزراعية قبل عشرة آلاف عام، حفل بدرجات متفاوتة من انعدام المساواة بين البشر. يندر أن نصادف ـ عبر هذا التاريخ الطويل للأسرة البشرية ـ مجتمعا يتأسس على المساواة التامة بين أفراده.
انعدام المساواة لصيق بطبيعة المجتمعات البشرية ذاتها التي تنزع إلى تمييز بعض أبنائها مقارنة بغيرهم سواء بالمكانة، أو الثروة، أو السلطة السياسية، أو التأثير الديني، أو حتى الجندر (اللامساواة بين الرجال والنساء كانت على الدوام أبرز صور اللامساواة في كافة المجتمعات البشرية عبر التاريخ).
على أن هذه الدرجة من انعدام المساواة المتأصلة في المجتمعات البشرية لا يمكن مقارنتها بما جرى بعد اكتساح الرأسمالية للعالم. المجتمعات ما قبل الرأسمالية كان طابعها الركود. قدرة الفرد على التميز وتحقيق ذاته كانت محكومة بنظم جامدة وثابتة من السلطات التقليدية؛ الدينية والسياسية. هذه النظم كانت تتحكم باختيارات الفرد ومصيره.
في المقابل، كانت هذه المجتمعات ـ على ما فيها من صور انعدام المساواة ـ تنطوي على درجة عالية من الاستقرار والأمان. بالنسبة للفرد، الشبكات العائلية والقبلية والسلطات التقليدية المختلفة كانت تمثل عامل استقرار وثبات يعصم الإنسان من تقلبات الحياة وغدر الزمان. المستقبل، في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، هو في الأغلب امتداد للماضي.
"المجتمع التجاري"، الذي بزغ إلى حيز الوجود في القرن السادس عشر في أوروبا وأميركا، شأن آخر مختلف. في المجتمع التجاري لا ينتج المرء ما يستهلك، كما كان حال الأغلبية الساحقة من البشر عبر التاريخ.
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: لماذا تفشل في العالم النامي؟ (5)
في "المجتمع التجاري" الأسرة تنتج للسوق. تبيع أغلب ما تنتج، وتشتري أغلب ما تستهلك. في المجتمع الرأسمالي السوق هو المحرك لكل شيء. السوق يخلق جملة من العلاقات الاجتماعية والروابط التي تكسر المجتمع التقليدي.
مع كسر هذه الروابط تنطلق إمكانيات الفرد وتتعزز حرية الاختيار لديه. ينفتح المجال أمامه لمزيد من الاختيارات للارتقاء بحياته. في نفس الوقت، يتقلص هامش الأمان والاستقرار اللصيق بالمجتمعات التقليدية. في هذه المجتمعات القديمة، تمثل التهديد الأكبر للإنسان في الكوارث الطبيعية. في المجتمعات الرأسمالية، التهديد الأكبر هو.. الاقتصاد والسوق!
ما السبب؟
نعرف أن تقسيم العمل يعد ركنا ركينا في النظام الرأسمالي. يفضي ذلك بالضرورة إلى أن أعدادا من البشر تتخصص في الأنشطة التي تجيدها. يقود هذا إلى مزيد من الإنتاجية بالطبع. المعضلة أن الرأسمالية تقوم على فكرة "التدمير الخلاق" التي تحدث عنها "شومبيتر" حيث السلع والمنتجات وطرق الإنتاج والتنظيم الجديدة تزيح القديمة باستمرار. من شأن هذه الدينامية أن تجعل البطالة جزء لا يتجزأ من المنظومة الرأسمالية. تختفي أنشطة وتبزغ أخرى، ومن ثم يصعد أناس وينزلق آخرون إلى درك البطالة والعوز. مع البطالة يأتي انعدام المساواة. بهذا المعنى، فإن اللامساواة ليست محصلة لتطبيق سياسة بعينها، أو لانحياز طبقة ما. اللامساواة مفهوم لصيق بالرأسمالية نفسها، وجزء لا يتجزأ من نسيجها.
بيل غيتس عبر عن هذا المعنى ذات مرة بقوله: "نعم! إن درجة ما من اللامساواة تعد جزء لا يتجزأ من الرأسمالية. هي مكون جوهري في النظام ذاته. السؤال هنا: أي مستوى من اللامساواة يكون مقبولا؟ ومتى يكون ضرر اللامساواة أكبر من نفعها؟".
قد تتعجب قليلا من قول "بيل غتيس" لأنه ينطوي على تلميح بأن بعضا من اللامساواة لا يضر. هذا، في واقع الأمر، صحيح. إن مجتمعا يقوم على المساواة الكاملة والمطلقة بين أعضائه، هو في واقع الأمر مجتمع بلا حافز على التقدم والتميز والإنجاز الفردي. في مجتمع مثل هذا لا يجد البشر ما يدفعهم للاجتهاد ليكونوا أطباء على سبيل المثال. لا بد من تمييز في الدخول حتى يقبل الناس على مهن تتطلب اجتهادا استثنائيا ومهارات خاصة.
اقرأ للكاتب أيضا: الرأسمالية: المِلكية الخاصة! (4)
والحال أن أكبر محرك لانعدام المساواة في ظل النظام الرأسمالي كان التكنولوجيا. منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومع ظهور الماكينة والمحرك البخاري، تعمقت الفجوات داخل المجتمعات وبين البلدان.
الإنتاج في المصانع جلب دخلا أكبر من الإنتاج الزراعي. التفاوت بين الدول لم يكن كبيرا قبل الثورة الصناعية. في 1820 كانت بريطانيا وهولندا أغنى بلدين في العالم، وأكثر ثراء ثلاث مرات من الهند والصين. اليوم حجم الفجوة هو 100 إلى واحد. في عالم اليوم يقدر مجمل الثروة بـ 260 تريليون دولار.
السكان في أوروبا وأميركا (وهم 20 في المئة من سكان المعمورة) يتحصلون على 67 في المئة من هذه الثروة، فيما الصين (أكبر من عدد سكان أوروبا وأميركا مجتمعتين) لديها 8 في المئة فقط من الثروة. التمايز في الدخل، على المستوى العالمي، يعكس نفس النمط. شريحة الـ 20 في المئة الأعلى دخلا من البشر يحصلون على 83 في المئة من الدخل. الـ20 في المئة الأفقر يحصلون على واحد في المئة.
والحق أن الصورة مختلطة وليست أبيضا وأسودا. نعم الأغنياء ازدادوا غنى. ولكن الرأسمالية ـ من جهة أخرى ـ انتشلت مليارات البشر من ربقة الفقر، خاصة في الربع الأخير من القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين.
الأهم أنها وفرت فرصا غير محدودة أمام البشر للارتقاء وتحسين مستوى حياتهم. غالبا ما يركز منتقدو الرأسمالية على ترويجها للسلع الاستهلاكية، ولكن حقيقة الأمر أن الرأسمالية هي التي أتاحت كذلك كافة الأدوات الثقافية (بداية من الكتاب المطبوع وانتهاء بالإنترنت) التي جعلت ارتقاء الإنسان، من حيث الثقافة والوعي، أمرا ميسورا أمام أعداد أكبر من البشر.
واقع اللامساوة لا يجعل الرأسمالية نظاما شريرا. على أنه لا يتعين ـ من جانب آخر ـ التسليم بهذا الواقع والاستسلام له باعتبار ذلك ثمنا ضروريا لجني مكاسب الرأسمالية. الحال أن تاريخ الرأسمالية هو، في أحد جوانبه، تاريخ لمحاولات مستمرة لاجتراح الأدوات والمنظومات التي تجعل هذا النظام مقبولا من قبل الأغلبية.
جرى ذلك عبر العمل على تقليص فجوة اللامساواة وتحقيق قدر أكبر من الأمان للعمال (اتحادات العمال) وغير القادرين على العمل (المعاشات وإعانات البطالة، وكان أول من ابتدعها المستشار الألماني "بسمارك" في ثمانينيات القرن التاسع عشر)، وغير ذلك من السبل انتهاء بدولة الرفاهة منذ منتصب القرن العشرين.
سيظل الجدل السياسي الأهم في عصرنا هو التالي: كيفية التوفيق بين اللامساوة اللصيقة بالنظام الرأسمالي من ناحية، مع الحفاظ على حيوية هذا النظام الذي يزدهر بالحافز الفردي من ناحية أخرى.
ــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)