ولي العهد السعودي خلال زيارته لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)
ولي العهد السعودي خلال زيارته لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)

بقلم د. نجاة السعيد

عندما سئل الأمير محمد بن سلمان عن أكبر تحد يواجهه في تطبيق رؤية 2030 خلال مقابلته في برنامج 60 دقيقة الأميركي، ذكر أن أكبر تحد هو أن يؤمن الناس بما نقوم به.

إن إجابة الأمير تؤكد أن أصعب تغيير ممكن يحدث هو التحديث الثقافي للمجتمع السعودي، لذلك نجد أن أكبر فرق بين زيارة الأمير محمد بن سلمان وزيارة أي مسؤول سعودي للولايات المتحدة الأميركية من قبل، أن هذه الزيارة ركزت على الاستثمار الثقافي أكثر من صفقات الأسلحة التي كانت أساس الزيارات السابقة.

وترجم ابن سلمان هذا الأمر، عبر لقاءاته مع كبار المسؤولين التنفيذيين من شركة أمازون ومايكروسوفت وغيرها من الشركات في هوليوود وسيليكون فالي وديزني لاستقدام كل شيء، من مراكز البيانات إلى دور السينما، إلى المملكة العربية السعودية، كجزء من مساعيه لتحويل البلاد إلى مجتمع أكثر انفتاحا وحيوية.

إن الظروف السياسية والاقتصادية تحتم على السعودية التغيير الثقافي في المجتمع

​​إن مهمة تحديث المجتمع والسعي إلى تغيير الثقافة التي كانت سائدة في البلاد من أصعب المهمات في رؤية 2030. إذ كانت الثقافة السائدة خاصة من بعد 1979 أو ما يسمى بعهد الصحوة، ثقافة تشدد وركود، أدت إلى تأخر تنمية المجتمع وإعادته، على الأقل، 40 سنة للخلف.

الوضع الآن يشبه اقتلاع أشجار صبار مليئة بالأشواك من أرض صحراوية وتغيير تربتها لتصبح صالحة لزراعة ورد جوري. هذه العملية ليست سهلة أبدا لأن تغيير الثقافات والعادات التي ترسخت في المجتمع لعقود طويلة أمر يحتاج إلى عملية تخطيط كبيرة وإلى وقت طويل وعمل مكثف على جميع الأصعدة.

اقرأ للكاتبة أيضا: الحجاب: فريضة أم أيديولوجية سياسية؟

إن من أهم الأسئلة التي سئلت بعد ما يسمى بالربيع العربي والفوضى والدمار الذي حل على الدول التي مرت بتلك المرحلة هو: هل كان العرب يحتاجون إلى ثورة ثقافية تواكب تلك الثورات؟ وقد أكد الشاعر المصري الراحل فاروق شوشة عام 2015 في مقابلة في جريدة الأهرام أن الثورة الثقافية مسؤولية المجتمع بأسره، وجميع الوزارات وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم وليست وزارة الثقافة فقط.

هذا بالضبط ما تقوم به السعودية الآن فهي من خلال تلك الرؤية تقوم بثورة ثقافية في المجتمع لأنها تريد أن تتجنب ما حدث مع دول الربيع العربي، أو بالأصح تجنب الدمار الذي حل بتلك الدول وهذا ما أكد عليه الأمير محمد بن سلمان في مقابلته في "ذا أتلانتك".

لقد كانت لعهد الصحوة في السعودية أثار خطيرة على المجتمع، أهمها: التزمت الديني، الانغلاق الفكري وعدم تقبل الفكر الآخر، ازدياد الطائفية والعنصرية والقبلية بشكل متطرف وزيادة الضغوط على المرأة وتهميش دورها تماما.

لقد شاهدنا ذلك التزمت الديني من خلال تحريم كل شيء تقريبا؛ من وسائل الترفيه إلى دراسة بعض التخصصات مثل الفلسفة، ووصف كل من يخرج عن هذا التفكير بالعلماني والليبرالي والزنديق ويتم تكفيره.

وكما ذكر ولي العهد في مقابلته في برنامج 60 دقيقة أنه بعد عام 1979، عندما أسس آية الله الخميني حكومة دينية إسلامية في إيران، وفي العام نفسه استولى المتطرفون الدينيون في المملكة العربية السعودية على أقدس موقع في الإسلام، وهو المسجد الكبير في مكة، ومن أجل تهدئة المتطرفين الدينيين، بدأ السعوديون في قمع وعزل النساء عن الحياة اليومية.

وبعد ذلك الحدث شاهدنا آلاف الكتب التي ألفت ضد الشيعة لمواجهة المد الشيعي الخميني الذي كان يهدد المنطقة وبعد ذلك توالى التطرف من كل جهة في السعودية. حتى التعصب القبلي والعنصري ازداد إلى أن وصل الحد تطليق زوجين متحابين بالمحكمة لعدم تكافؤ النسب مثل قضية منصور التيماني وفاطمة العزاز. بالإضافة إلى العنصرية بين المناطق، مثل العنصرية بين أهالي نجد والحجاز وأهل الجنوب.

لكل تغيير مجموعة تقاومه، لذلك لا بد من قوة تقف بوجه من يقاوم ذلك التحديث والتغيير

​​كل هذه السلبيات تعززت من خلال مؤسسات الدولة كالمراكز التعليمية التي انطلق بها "الصحويون" ومن خلال المناهج الدراسية والندوات والمؤتمرات حتى النوادي والصالونات الأدبية ومعارض الكتاب؛ إذ لا يخلو تجمع من إرشادات دينية ومحتسبين.

لذلك من الصعب الآن على بعض أفراد المجتمع تقبل الأفكار الجديدة مثل الاختلاط وظهور النساء على الشاشات التلفزيونية بدون غطاء وجه. كما أن البعض منهم لا يحبذ ظهورهن نهائيا. وفي كثير من الأحوال نرى المرأة نفسها مقتنعة بذلك نتيجة ما تلقته من التربية والتعليم.

إضافة إلى ذلك، وكما ذكر ولي العهد في مقابلته في "ذا أتلانتك"، نحن لسنا محاطين بالمكسيك وكندا والمحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، فلدينا داعش والقاعدة وحماس وحزب الله والنظام الإيراني وحتى القراصنة.

كل هذه المخاطر والصراعات عطلت وشتت الانتباه عن التنمية الداخلية في البلاد مما انعكس على أداء العمل والإدارة داخل الأجهزة الحكومية مثل البيروقراطية والتسيب وعدم الإتقان في العمل وتفشي الفساد الإداري والمالي في أغلب مؤسسات الدولة، وكل هذا يحتاج إلى وقت لإصلاحه أيضا. وفي الوقت نفسه نرى قائدا مثل الأمير محمد بن سلمان لديه رؤية يريد تنفيذها بسرعة كبيرة في مجتمع ومراكز حكومية تعودت على البطء وعدم الدقة في الإنتاجية.

اقرأ للكاتبة أيضا: اجتماع القاهرة...محور الدولة ضد محور اللا-دولة

فحتى يتغير كل هذا لا بد من تخطيط سليم وغرس مفاهيم جديدة في المجتمع والبدء من سن صغير حتى نرى جيلا مختلفا عن الجيل السابق. أما في الوقت الحالي فلا بد للدولة من الاستفادة من مهارات خريجي الجامعات الأميركية والأوروبية الذين استثمرت فيهم ملايين الدولارات في الخارج.

التغيير الثقافي في السعودية لن يكون سهلا ويحتاج إلى وقت وجهد كبيرين

​​إن الظروف السياسية والاقتصادية تحتم على السعودية التغيير الثقافي في المجتمع. ولكن لكل تغيير مجموعة تقاومه. لذلك لا بد من قوة تقف بوجه من يقاوم ذلك التحديث والتغيير وهذا يكون من خلال:

أولا: مؤسسات تشرف على ذلك التغيير وتدعمه في أجهزة ووزارات الدولة مثل وزارة التعليم. ومن الضروري السعي لتغيير المناهج الدراسية وأهمها الغزو الفكري الإخواني الذي يحرم كل شيء والتركيز على المناهج العلمية والثقافية التي تعزز رؤية 2030 لتكون الأجيال القادمة زرعا مفيدا.

ثانيا: نشر مبادئ وأفكار رؤية 2030 من خلال الإعلام التقليدي والجديد. فهناك تغييرات جذرية يجب أن تطرأ على الإعلام التقليدي من خلال تغيير البرامج الرتيبة والمستوردة التي ليست لها صلة بالمجتمع. ويجب السعي إلى تنظيم المعلومات في الإعلام الجديد من خلال "هاشتاغات" مدروسة على موقع تويتر وقنوات خاصة على اليوتيوب وسناب شات كي لا تنتشر الفوضى المعلوماتية.

ثالثا: حملات التثقيف المكثفة وهذا يكون عبر الجامعات والمدارس والأندية والمؤتمرات والصالونات الأدبية.

رابعا: انفتاح المجتمع على الثقافات الأخرى واحترامها، وهذا أمر سيتحقق مع الوقت بعد افتتاح دور السينما والمسارح ودار الأوبرا. ويجب أن تلعب هيئة الثقافة، التي أسست مؤخرا، دورا كبيرا في ذلك.

أكيد أن هذا التغيير الثقافي في السعودية لن يكون سهلا ويحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، لكنه إذا نجح فسيكون تأثيره الحداثي والتنويري ليس فقط على الدول العربية بل حتى على الدول الإسلامية وهذا ما تحتاج إليه هذه المنطقة للاستقرار.

ـــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

متظاهر يشارك في احتجاج يندد بحكومة السوداني في أكتوبر الماضي (تعبيرية)
متظاهر يشارك في احتجاج يندد بحكومة السوداني في أكتوبر الماضي (تعبيرية)

يبدو أنَّ علاقة العراق مع محيطه العربي تجاوزت المشاركات والزيارات البروتوكولية، والتي تنحصر في حدود مجاملات الحضور الدبلوماسي.

إذ في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ نهاية معارك التحرير ضد جماعات التنظيم الإرهابي، داعش، أخذت علاقات العراق الخارجيّة مع محيطه الإقليمي العربيّ تبحث في أطر التعاون والشراكة على المستويات الاقتصادية.  

استثمرت الحكومة العراقية السابقة، برئاسة مصطفى الكاظمي، الانفتاح الإقليمي العربي على العراق وعقدت اتفاقيات شراكة وتعاون اقتصادي مهمة مع مصر والأردن والسعودية، ونجحت في عقد قمة بغداد 2021 لِدول الجوار الإقليمي بمشاركة فرنسيّة.

وعلى الرغم من كل تلك الفعاليات والاتفاقات ولقاءات القمم فإنّها لم تنعكس على تنمية أو تطوير واقع الاقتصاد العراقي. لكن تبقى أهميتها في تعبيد الطريق أمام حكومة، محمد شياع السوداني، للاستثمار فيها على مستوى العلاقات الخارجية مع دول الجوار العربي تحديداً.  

ولعل قمة بغداد الثانية التي احتضنتها عَمّان، عاصمة الأردن، وقبلها قمّة عربية-صينية لِلتعاون والتنمية عُقدت في الرياض، تمثل استمراراً لخطوط التواصل بدلاً من استمرار التقاطعات والنظر إلى العراق ضمن دوائر استقطاب الصراع والتنافس الإقليمي بين إيران وتركيا ودول الخليج.  

ورغم تلك القمم واللقاءات، التي كانت عناوينها الشراكة والتعاون وصور لاجتماعات وتوقيع اتفاقيات، لكننا لحدّ الآن لم نقطف ثمارها. ولعلّ السؤال هنا هو هل ستبقى تلك المؤتمرات واللقاءات الدبلوماسية مجرد دعاية لِلحكومات العراقية المتعاقبة التي تعدها إنجازاً لها في السياسة الخارجية؟ في حين يبقى المواطن العراقي ينتظر ويترقّب عسى ولعلّ أن يقطف ثمار تلك الاتفاقات في تحسين واقعه الخدمي والاقتصادي، أو على الأقل يجد جوازَ سفره مقبولاً ومرحباً به في الدول التي تتفاخر الحكومات العراقية بنجاح زياراتها لها.  

بعيداً عن شعارات التوازن في سياسة العراق الخارجية والابتعاد عن سياسة المحاور الإقليمية، التي باتت شعارات مستهلَكة تكررها جميع الحكومات في برنامجها الوزاري وفي خطابها السياسي الخارجي، لا نعرف لحدّ الآن، إلى أين تتجه بوصلة العراق الخارجية، هل تريد تفعيل مجالات التعاون الاقتصادي التي جرى الاتفاقُ عليها مع مصر والأردن؟ أم تريد أن تبقيها في إطار الشعارات فقط؟ ما هي رؤيتها للإصرار السعودي على الانفتاح السياسي والشراكة في قطاعات الاستثمار الاقتصادي؟  

وإذا كانت تلك الأسئلة على مستوى علاقات العراق مع محيطه الإقليمي، فيبدو أن الأسئلة ستكون أكثر صعوبة إذا كانت تريد مناقشة رؤية الحكومة والقوى السياسية التي تقف خلفها إلى حدود العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، ورغبتهم في الانفتاح والدخول في شراكات اقتصادية عملاقة مع الصين؟  

في الوقت الراهن قد لا يُشكّل تطوير آفاق علاقات العراق الاقتصادية مع الصين تهديداً لعلاقة العراق مع أميركا، لأنَّ إدارة الرئيس، جو بايدن، ربما تكون مشغولة بقضايا أكثر تعقيداً من تطور مجالات العلاقات الصينية- العراقية على المستوى الاقتصادي.

ولكن على الحكومة العراقية أن تدرك خطورة التماهي مع مشروع السعودية في استخدام ورقة توثيق الشراكة الاقتصادية مع الصين لِلضغط على الولايات المتحدة الأميركية.

إذ ربما تكون التداعيات خطيرة جداً في السنوات القادمة، لاسيما أن القوى الفاعلة في صنع القرار السياسي الخارجي الأميركي تصرّ على التعامل مع الصين كتهديد استراتيجي مستقبلي على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. 

على مستوى التعقيد في العلاقة بين البيئة السياسية الداخلية وانعكاساتها على سياسة العراق الخارجية، تبقى مشكلة القوى السلطوية والحكومات تكمن في اعتقادها بأنَّ شرعيتها في الحكم لا تكتمل إلا في استحصال الاعتراف الدولي والإقليمي، لذلك تعدّ اللقاءات والزيارات والمؤتمرات الدوليّة اعترافاً بها وبحكمها، وليس بوصفها سياقاً سياسياً يرتبط بتحقيق المصالح العليا لِلدولة.

ولذلك ليس مهمّاً مدى انعكاس المؤتمرات الدولية والإقليمية على مشاريع التنمية أو حتّى محاربة التطرف والإرهاب في العراق، وإنما يُنظَر إليها باعتبارها مكسباً سياسياً لطبقةٍ حاكمةٍ تعاني من تصدّعٍ في شرعيتها المجتمعية والسياسية.  

وليس مستغرباً أن نشهد تناقضاً في مواقف الكثير من الزعامات السياسية بشأن علاقات وتوجهات السياسة الخارجية العراقية والتأثير السلبي عليها، إذ الكثير من هذه الزعامات تعتقد أنَّ مشكلة بعض الدول الإقليمية تتمثل في رفض الاعتراف بعناوينهم التي فرضوها على المجتمع العراقي بقوّة السلاح أو النفوذ السياسي. ومن ثم تنعكس تلك المشكلة على توجهات الحكومة في رسم سياستها الخارجية وتتحوّل إلى قيود تعرقل خطوات تطور العلاقات الخارجية واتفاقات التعاون في المجالات الاقتصادية وحتّى الأمنية. 

تبدو الفرصة اليوم سانحةً أكثر مِن أيّ وقت مضى أمام العراق لِتحويل الكثير من الشعارات السياسية التي تُرفَع في اللقاءات والمحافل الإقليمية والدولية، وتنادي بضرورة تطبيق مبدأ مصلحة العراق، وتدعو إلى أن يكون التعامل مع البيئة السياسية والخارجية وفق شعار (العراق أولاً).

لكن ذلك يبقى مرتهناً برؤية وسياسات الحكومة في استثمار فكر التعايش الإيجابي مع واقع العراق مهما كان شكل الحكومات أو القوى السياسية التي تقف خلفها. وإدراك القوى الإقليمية أنَّ إقصاء العراق أو بقاءه كدولة فاشلة يؤدي إلى احتمالات معاكسة لما يريده محيطه الإقليمي، ويتم تحويله إلى ساحة لتهديد مصالحه.  

وعلى العراق ألا يواصل التعامل مع محيطه الإقليمي بمنطق ردود الأفعال التي تعبّر عن عدم وضوح في خطواته لِلتفاعل الخالي مِن أي أبعاد استراتيجية أو أفق لشراكة ممتدة. فلدى العراق الكثير من المقومات التي يمكن أن تشكّل أساساً لِلتكامل والشراكة الاقتصادية، وفي الوقت ذاته لديه الكثير من المشاكل في علاقاته الخارجية لا يمكن أن تُحل مِن دون تحديد بوصلة التعاون التي يمكن أن تكون ورقة ضغط لحلحلة مشاكل المياه والأمن مع دول الجوار العراقي. 

القوى الإقليمية العربية تريد أن ترى عراقا مختلفاً عن الماضي القريب، ولكن لحدّ الآن لا نعرف ماذا تريد القوى الحاكمة في العراق، هل تريده عراقاً فاعلاً ومتفاعلاً مع محيطه الدولي والإقليمي؟ أو أن يبقى ساحةً لاستعراض هيمنة نفوذ القوى الإقليمية؟ وإجابة هذا السؤال يجب أن تكون هي البوصلة التي تحدد آفاق سياسة العراق الخارجية نحو البيئة الإقليمية والدولية.