تظاهرة للدفاع عن حقوق النساء والعلمانية في اسطنبول
تظاهرة للدفاع عن حقوق النساء والعلمانية في اسطنبول

بقلم بابكر فيصل بابكر/

أكاد أجزم أنه لا يوجد مفهوم تعرض للتشويش في أذهان الشعوب العربية والإسلامية مثل مفهوم العلمانية الذي أضحى بفضل الدعاية الكثيفة والمضللة والتمويه المتعمد من قبل تنظيمات الإسلام السياسي، وعلى وجه الخصوص الجماعات السلفية والإخوان المسلمين، يعني الإلحاد ومحاربة الدين.

في سياق تعليقه على توقيع المعارضة السودانية مؤخرا لإعلان سياسي يدعو لإسقاط نظام الحكم بالوسائل السلمية، قال أحد خطباء المساجد من مناصري حكومة الإخوان المسلمين إنه يتوجب على الشعب السوداني التمسك بالحكومة التي "طبقت فيهم شرع الله"، وعدم الإنصات لأحزاب المعارضة "والعلمانيين الذين يسعون لإقصاء الدين عن الحياة ونشر الإلحاد والمفاهيم الغربية بين المسلمين".

وكان الزعيم السابق للجماعة الوهابية "جماعة أنصار السنة المحمدية" في السودان، أبوزيد محمد حمزة، قد قال بعد انفصال جنوب السودان إن "كل المسلمين أجمعوا على أن يحكم السودان الشمالي بالشريعة الإسلامية. هذه مطالبتنا نحن، ونسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية" وأضاف "ما دايرين حاجة علمانية (أي لا نريد شيئا علمانيا) فنحن لسنا كفارا، نحن مسلمون ومطالبتنا بالإجماع على تطبيق الشريعة الإسلامية".

الموقف من العلمانية يعتبر في المقام الأول موقفا من إعمال العقل في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية

​​من المؤكد أن الحديث أعلاه ليس معزولا عن خطاب جماعات الإسلام السياسي التي تقول بأن الإسلام "دين ودولة"، وإن حل جميع مشكلات المجتمعات الإسلامية، بل جميع مجتمعات العالم، يكمن في تطبيق الشريعة الإسلامية، وهي أقوال لا شك تتعارض مع الأسس المنطقية والتاريخية والسياسية التي تنبني عليها الفكرة العلمانية، والتي قامت على أساسها الدولة الحديثة.

اقرأ للكاتب أيضا: السودان: مأساة التعليم في ظل الحكم الإسلاموي

فالعلمانية من الناحية الفلسفية تعني أن المعارف المطلوبة لتنظيم شؤون المجتمع السياسية والاقتصادية والقانونية ليست بالضرورة نابعة من الدين، وهي من الجانب السياسي تدعو لأن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وفي التجربة التاريخية رفضت العلمانية تغول الكنيسة (الدين) في شؤون السياسة.

إن الزعم بأن العلمانية تعني إقصاء الدين عن الحياة هو في حقيقته ـ كما يقول عبد الله النعيم ـ قول ضال ومضلل وغير عملي حيث يستحيل إقصاء الدين عن الحياة وذلك لأن الناس يتصرفون تجاه مختلف القضايا الاجتماعية من نظرة أخلاقية هي لدى الكثيرين منهم نابعة من الدين ولهذا فإن الدين يتخلل جميع جوانب الحياة العامة للمجتمع.

ومن ناحية أخرى، لا يجدر بنا النظر إلى مفهوم العلمانية كنسق واحد نهائي، فهي تنشأ متأثرة بمعطيات كل مجتمع وتختلف باختلاف السياقات الاجتماعية والتجربة التاريخية وبالتالي فإن خصائصها تختلف من بلد لآخر.

فعلى سبيل المثال، إذا كانت اللائكية الفرنسية قد نشأت في تضاد مع الكنيسة بسبب سلطة الأخيرة الكبيرة وبسبب وقوفها ضد الثورة، ففي العلمانية البريطانية لم تدخل الدولة المدنية في صراع مع الكنيسة بل أن الملك في بريطانيا يظل رمزيا رأسا للكنيسة. أما في الولايات المتحدة الأميركية فإن الدولة المدنية حرصت على حماية الدين من أي عدوان عليه.

وعلى الرغم من علمانية الدولة الأميركية فإن المجتمع الأميركي ـ على سبيل المثال ـ يعتبر مجتمعا متدينا، وربما كان أكثر تدينا من العديد من المجتمعات الإسلامية حيث يعتبر 82 في المئة من الأميركيين أنفسهم متدينين، والذين يؤدون الصلوات الأسبوعية في الكنائس يمثلون 45 في المئة من المتدينين.

إن الموقف من العلمانية يعتبر في المقام الأول موقفا من إعمال العقل في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وفي التراث الإسلامي ـ كما يقول رفعت السعيد ـ كان الخلاف دوما موجودا بين عقليتين إحداهما علمانية والأخرى غيبية وفي المثال التالي توضيح لما نقول.

يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه "المغني" في تعريفه وتفسيره لغلاء الأسعار "قلة الشيء مع شدة الحاجة إليه، أو كثرة المحتاجين بالنسبة إلى ما هو موجود. وإن ما يجري من الغلو في التسعير إنما أنشأه بعض الظلمة ويؤدي إلى فساد يعم الفقراء، وعلى الحاكم التدخل لتسعير السلع تسعيرا ييسر على الفقراء معاشهم".

الزعم بأن العلمانية تعني إقصاء الدين عن الحياة هو في حقيقته قول ضال ومضلل وغير عملي

​​نحن هنا بإزاء عقل يفسر ظاهرة ارتفاع الأسعار وفقا لنظرية العرض والطلب، ويضفي عليها مسحة من العدالة الاجتماعية تدعو لتدخل الحاكم لإنصاف الفقراء والتسهيل عليهم. وهذا، لا ريب، تفسير علماني عقلاني.

أما الإمام الباقلاني الأشعري فإنه يقول في كتابه "التمهيد" عن ذات الموضوع إن "الغلاء والرخص في الأسعار إنما يرجعان إلى الرغائب والدواعي، فإن جميع الأسعار من الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي خلق الرغائب في الشراء ووفر الدواعي إلى الاحتكار".

إن تفسير الباقلاني لغلاء الأسعار يعكس تفكيرا غيبيا لا ينحو للنظر العقلاني للظاهرة ومحاولة إيجاد أسباب منطقية لتفسيرها بل يرجعها لأسباب ما ورائية ترتبط بالمشيئة الإلهية. وهذا بلا شك يخالف التفكير العلماني.

اقرأ للكاتب أيضا: مفارقات بعض الجاليات المسلمة في دول الغرب

غير أن هناك أمرا مهما يجب التنبيه إليه بخصوص موقف جماعات الإسلام السياسي من العلمانية، ويتمثل ذلك الأمر في التعامل الانتهازي مع قضية العلمانية بحسب الموقف الأيديولوجي وليس المبدأ الفكري الصارم، وهو ما تبدى بوضوح من خلال رد فعل الإخوان المسلمين على تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول موضوع العلمانية.

إذ سبق لأردوغان أن قال في مقابلة تلفزيونية إن "العلمانية تعني التسامح مع كافة المعتقدات من قبل الدولة، والدولة تقف من نفس المسافة تجاه كافة الأديان والمعتقدات".

هنا يتبدى التناقض الصارخ في شعارات وأقوال أهل تيار الإسلام السياسي، فهم من ناحية يقولون إن العلمانية تعني التخلي عن الدين وإبعاده عن الحياة، ومن ناحية أخرى يقبلونها من أردوغان الذي يصفونه بأنه نور الله وأنه سيبقى في الحكم ويتمدد لأنه "ينصر الله!".

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.