أحد أحياء حرستا في الغوطة الشرقية
أحد أحياء حرستا في الغوطة الشرقية

بقلم حسن منيمنة/

حسنا يفعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمعاقبة النظام السوري لاستعمال السلاح الكيميائي، وحسنا تفعل نيكي هايلي مندوبة الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية إذ تتجاهل اعتراضات نظيرها الروسي، نيابة عن نظام دمشق ـ عصابات القتل التي تسعى الجهود الروسية والإيرانية إلى ترقيتها مجددا إلى مستوى دولة الأمر الواقع القمعية - لتعلن بأن تحرك الولايات المتحدة لم يعد مشروطا بقرارات مجلس الأمن. فعلى مدى الأعوام الطويلة للمقتلة السورية، استفادت موسكو من حق النقض ومن القواعد الدولية الملتبسة لحماية وكيلها في دمشق على حساب الدم السوري ومستقبل سورية.

غير أن الدين المتراكم بشأن سورية، في واشنطن وباريس ولندن وسائر العواصم العالمية، لا يمكن تسديده بضربة عقابية، بل لا بد من رؤية متكاملة تصحيحا للإساءة العميقة المتمثلة بخذلان الإنسان السوري، الذي انتفض مطالبا بحقه بالحياة والحرية والكرامة بوجه نظام يعتبر الأولى منة يمنحها ويمنعها كيفما شاء والثانية تهمة تستوجب الركل والدعس والإذلال لمن تقع عليه شبهة المطالبة بها فيما الثالثة تطفح خطابياته بذكرها اسما دون مسمى.

المسؤولية المباشرة في تنفيس الثورة السورية تقع على عاتق الإسلاميين، على اختلاف أطيافهم

​​ليس أن واشنطن وغيرها من عواصم الغرب مسؤولة عن مصاب الإنسان السوري. بل المسؤول هو النظام القاتل في دمشق، وداعماه اللذان ما كان ليستمر دونهما، إيران وروسيا. ولكن الغرب عامة، وواشنطن خاصة، كان بموقع إظهار الحزم بما يناسب جسامة حدث الانتفاض على نظام قاتل، حين كان المتظاهرون يعبرون عن التوجه الطبيعي لمجتمعهم، التعددي إنما المتوائم بطبعه مع نفسه، فتركوا لحالهم إزاء نظام يقتلهم ويتهمهم بقتل أنفسهم لتلطيخ سمعته.

الانتفاضة السلمية إزاء نظام مشهود له ما ارتكبه من مجازر على مدى تاريخه لا جدوى منها إلا في إطار موقف دولي يدعمها. وهنا وقعت السقطة الأخلاقية التاريخية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.

اقرأ للكاتب أيضا: من الخزعبلات إلى المؤامرات التي تتحقق بنفسها

فأوباما، المتباهي بفصاحته الاستثنائية وحقوق الإنسان، والذي فاته قطار تونس ومصر إذ بدا متلكئا حين تحدى كل من نظاميهما السلطويين دعوات الإسقاط، شاء أن يقف إلى جانب الحق في سورية، شرط ألا يتورط وألا يتكلف. نعم، هو دعا إلى رحيل النظام، إلا أن دعوته كانت من باب التمني، عسى ما حدث في تونس والقاهرة يتكرر بسرعة في دمشق، فيلقى هو بعض الفضل لمواقفه المبدئية الفذة.

وعلى مدى الأعوام التالية، فيما النظام، مدعوما بمساندة واضحة الأهداف والوسائل من إيران وروسيا، سعى إلى تأخير الانهيار ثم شرع بالهجوم المضاد. كان اعتماد واشنطن على سلطويات الخليج والسلطوية الناشئة في أنقرة، لتدعم الثورة، وهي إن سعت إلى ذلك فإن سعيها لم يكن طبعا من أجل تحقيق النظام الحر التمثيلي الصادق للمجتمع السوري، بل انطلاقا من خصومات ومصالح متقلبة.

واشنطن خصصت النذر اليسير من الأموال لهذا المجهود. وإن بدا من وجهة نظر خصومها، صدقا أو تشهيرا، أن أموالها هذه دليل قرار سياسي، فإن الواقع أنها كانت خطوات استلحاقية مبنية على منطق معتل متجول مفاده، عند كل تقييم، أنه بالفعل كان المطلوب في المرحلة الماضية قدرا لم يكن متوفرا من البذل والجهد، ولكن هذا القدر، رغم الاستعداد الآن لتقديمه، لم يعد كافيا، والأحوال قد تأزمت بما يتعدى رغبة الدولة والمجتمع في الولايات المتحدة بالالتزام.

ثم تمر الأشهر ويتكرر التقييم، إقرارا وأسفا، والحصيلة هي أن المبالغ الكفيلة بالتأثير قد صرفت دون أن تتجاوز عائداتها حفنة من التدريبات هنا، وقدرا يسيرا من الدعم القليل المفعول هنالك. هذا فيما الاصطفافات في أوساط دول المنطقة المساندة للثورة نقلت الاهتمام من مواجهة النظام إلى مناكفات بين الداعمين أنفسهم. وهؤلاء إن أظهروا أخيرا افتقادهم للنضج السياسي في انغماسهم بأزمتهم الخليجية القبلية، فإن إرهاصات هذه الأزمة قد ظهرت في سورية لتستنزف ثورتها وتحرمها من تجاوز الأزمة.

اقرأ للكاتب أيضا: الحركات الإسلامية نفّست الثورة السورية

غير أن المسؤولية المباشرة في تنفيس الثورة السورية تقع على عاتق الإسلاميين، على اختلاف أطيافهم. وإذا كانت ممارسات النظام على مدى العقود قد أصابت سورية بإفقار ثقافي سياسي كان من الصعب مقاومته إلا من خلال المسجد، فإن خروج الإسلاميين اختطف الثورة المستنزفة وجعلها عرضة لمقولة "إدارة التوحش" والتي عول عليها الجهاديون.

فسورية أمست ساحة للتوحش بالفعل، إلا أن الجهاديين لم يكونوا المدراء، بل المدارين. فالنظام وأربابه في طهران وموسكو قد تمرسوا جميعا على مدى العقود، من صيدنايا إلى فتح الإسلام ومن أفغانستان والشيشان إلى العراق، على منهجية إدارة متطورة للتوحش الجهادي وضعت موضع التطبيق في سورية، اختراقا وحصرا وإفلاتا، فرتبت الأولويات، لتكون الفصائل الإسلامية النابعة من الحواضن هدفا أولا ثم الجهاديون الساعون إلى استمالة هذه الحواضن، أي النصرة وملحقات القاعدة ثانيا، ثم تنظيم الدولة وخلافته الوهمية القاتلة كهدف أخير.

كان على أوروبا أن تدفع بعض الثمن لعجزها عن التحرك، فيما يتعدى المواقف المبدئية والخطوات الملتبسة، وانصياعها لقرار إدارة أوباما، من خلال ما شهدته من هجرة ثم من إرهاب.

الحاجة إلى هذا عقاب النظام السوري لدحض رسالة القمع التي أرادها النظام من سلاحه الفتاك ملحة

​​وكان على دول الجوار السوري، لبنان والأردن وتركيا وكردستان العراق أن تتحمل بعض الأعباء، وإن تم صرف الخسارة أرباحا في بعض المواقع. ولكن الواقع الذي لا جدل بشأنه هو أن المجتمع الدولي وقف إزاء المأساة السورية موقفا أقرب إلى اللامبالاة. نظام قاتل، مدعوم من قوى سلطوية واضحة الأهداف، بمواجهة مجتمع منتفض يعبث به الصديق قبل العدو، وتستولي على حراكه تيارات إسلامية محكومة بالفشل.

والنتيجة اليوم، مع الوهم في كل من موسكو وطهران ودمشق أن القضاء على الثورة في سورية أصبح بالمنال، هي السعي إلى إعادة تشكيل النظام القمعي. وإذا كانت مصر القمعية الجديدة دليلا، وهي التي كان للسلطوية فيها قبل الثورة قدر من المشروعية، والتي لا يحتاج الحكم فيها إلى مستويات مرتفعة من البطش لتثبيت سلطته، فإن طموح الطغمة الاستبدادية في دمشق من شأنه أن يتجاوز ما شهدته مصر من تراجع بأضعاف، في مسعى العودة إلى النفوذ القائم على الإرهاب، قتلا وتهجيرا وإذلالا وفتكا بالمجتمع المنهك للتو.

اقرأ للكاتب أيضا: هل تخلت الولايات المتحدة عن دورها المعنوي في العالم؟

وهنا الرسالة الضمنية في اعتداءات النظام الكيميائية، وهو المتمرس بارتكابها في الذكرى السنوية لما يريد التنويه إليه من أحداث. ليس النظام بحاجة ميدانية لاستعمال هذا السلاح القاتل، ولكن الغرض منه، بعد تكرر استعماله لعشرات المرات، هو الإشارة الواضحة القطعية للمجتمع السوري بأنه قادر على القتل، كيفما شاء، وليس للإنسان السوري من نصير في هذا العالم غير المبالي، وعليه بالتالي الخضوع والهتاف بحياة الرئيس وعظمته عسى أن يقتصر مصابه على الضرب والإهانة دون القتل.

ما كان المتوقع أن يكون ترامب، الداعي إلى انكفاء الولايات المتحدة عن أدوارها في أرجاء العالم، هو الذي يخرج عن هذه القاعدة الخبيثة التي تسلم المواطن السوري للجزار المؤهل إيرانيا وروسيا.

ولكنه أعلن النية أنه سيفعل، وسوف يعاقب النظام. والحاجة إلى هذا العقاب، لدحض رسالة القمع التي أرادها النظام من سلاحه الفتاك ملحة. إلا أن ما هو أكثر إلحاحا هو عودة الولايات المتحدة في هذا الموضوع الحرج، والذي يتحداها في مصالحها كما في مبادئها، عما أظهرته من تجاهل وإهمال إزاءه، والشروع بتسديد هذا الدين الإنساني للمجتمع السوري، من خلال خطوات جدية تزيل عنه كابوس القتل والإجرام وتسمح له بالارتقاء إلى ما هو من حقه، حياة حرة كريمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.