بقلم منى فياض/
كان آرنت ليبهارت مؤلف كتاب "الديموقراطية التوافقية" قد جعل من النظام البرلماني اللبناني أحد نماذج الديموقراطية التوافقية الناجحة في العالم الثالث. مع أن ليبهارت وجد أن لبنان يتميز بوضعية خاصة ضمن أنظمة هذا النوع من الديموقراطية.
ولقد اعتبر أن النظام اللبناني ظل ديموقراطية توافقية منذ عام 1943 حتى العام 1975 حين اندلعت الحرب الأهلية.
لكن ليبهارت لا يجد أن عرقلة حسن سير النظام حصلت بفعل تطوره الداخلي فهذا الجانب وحده ليس كافيا لتفسير اندلاع الحرب الأهلية. وإذا ما كان كفاح الطوائف الدينية المختلفة من أجل الاستقلال (1943) ساهم في إرساء الديموقراطية التوافقية (تعبير ليبهارت)؛ لكن تفاقم صراعات الشرق الأوسط بعد الاستقلال أثرت في اختلال التوازن ففجرتها؛ مقرونة بالعيب الداخلي المتمثل بجمود المارونية السياسية وعدم تأقلمها مع المستجدات من تغير ديموغرافي ومطالب المسلمين بالمساواة الاجتماعية.
لقد أوجد المؤسسون الأوائل للبنان ترتيبا انتخابيا بين طوائفه، التي يبلغ عددها الثماني عشرة، لمجتمع تعددي عرفه ليبهارت كما يلي: "نظام تمثيلي نسبي مسبق الضبط على أساس طائفي أو ديني". لكنه أغفل إضافة "المناطقي" أي الجغرافي، مع أنه عامل مهم جدا في لبنان في إضفاء التمثيل الأفضل للمواطنين، أو العكس، الذين يتبعون لمكون معين ويسكنون في منطقة ذات أغلبية من مكون آخر. وذلك بحسب ضم أو فرز للسكان يؤثر على النتائج بشكل حاسم.
في القانون الانتخابي الذي اعتمد مؤخرا جرت استنسابية كبيرة في اختيار المناطق الانتخابية، فضمت مناطق لا تلامس جغرافي بينها لتكون وحدة انتخابية. هذا يعد تلاعبا على القانون وله تأثير كبير على النتائج لمصلحة من هم في السلطة.
برأيي أن النظام اللبناني يجمع بين النظام الأكثري ونوع من النظام التوافقي والأصح أن نقول التعددي. إنه نظام برلماني تعددي خصوصا في حال طبق اتفاق الطائف كما ينبغي.
ولقد أشار ليبهارت نفسه إلى أن التوافقية اللبنانية لا تعتمد الوسائل المتبعة في انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان في أنظمة التمثيل النسبي المألوفة غير أنها كانت نسبية من حيث المفعول.
اقرأ للكاتبة أيضا: الأيام الأخيرة لمحمد: هل صار نقد التراث ممكنا؟
فقبل إقرار قانون الانتخابات الأخير، تميز هذا النظام السياسي اللبناني بأنه ينتج التسويات والانسجام لأن المرشح يحتاج فيه إلى أصوات الناخبين من طائفته ومن الطوائف الأخرى. فالدستور ينص على أن عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء، ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من ناخبيه.
من هنا نجد أن الجدل الذي حصل حول قوانين الانتخاب (أحدها سمي قسرا "بالأرثوذكسي" نسبة إلى طائفة من اقترحه بإيعاز من النظام السوري وهو يريد أن تنتخب كل طائفة نوابها حصرا) تبحث عن "صحة التمثيل الطائفي" ما يجعل من النائب ممثلا لطائفته ومنتخبا منها.
وهذا ما يناقض بوضوح نص الدستور وخصوصا (المادة 27) التي تعتبر أن النائب يمثل الأمة وليس الطائفة.
وما كان كل هذا ليحصل لولا التدخلات الخارجية؛ منذ استضعاف لبنان ورمي القضية الفلسطينية في ملعبه وما تبعها من حروب إسرائيلية جرى استغلالها لوضع اليد على البلد تحت ذريعة "المقاومة" من سورية في البداية إلى إيران حاليا.
وصلنا الآن إلى استقواء حزب الله بسلاحه الإيراني، بسبب الفساد وتواطؤ الطبقة السياسية التي تضع مصالحها الاقتصادية وتقاسم الحصص قبل سيادة الدولة. وأقر هذا القانون لأنه يناسب حزب الله في هذه المرحلة ويسمح له بالحصول على أكثرية مقابل تفتيت أصوات الأطراف الأخرى.
الدولة المعطلة
كيف وصلنا إلى هنا؟
قبل العام 1975 كانت الحكومات تشكل على أساس أكثرية وأقلية وكانتا كلتاهما مختلطتين من جميع الطوائف ولم تعرف الصفاء المذهبي إلا مؤخرا مع بروز الثنائية الشيعية التي صادرت قرار طائفة بأكملها. وكانت الحكومات أيضا منوعة ومختلطة من جميع المكونات. ولم يكن الفيتو، خصوصا المذهبي الصارخ، معروفا أو ممارسا.
لكن الحرب الأهلية والهيمنة السورية وتعطيل تطبيق اتفاق الطائف كما أقر (أي التهيئة لانتخاب برلمان من دون قيد طائفي وإقامة مجلس للشيوخ حيث تتمثل المكونات كافة مع تمتعها بحق الفيتو حول المواضيع التي يحددها الدستور وعددها 12). ما أدى إلى اعتماد نظام الترويكا (التوافق الإلزامي بين رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة لحسن سير الحكومات وبت قضايا المواطنين). ما جعل الحكم متعذرا، طوال التسعينيات ومطلع الألفية، دون تدخل النظام السوري في كل شاردة وواردة.
أدت هذه الهيمنة من قبل النظام السوري المستبد إلى سيطرة الدولة الأمنية وقمع الحريات وضرب الحركة النقابية. فتراجعت الحريات العامة ومنعت التظاهرات واعتقل المعارضون.
كما تم التدخل في شؤون الحريات الإعلامية والضغط على الصحف والإذاعات ومحطات التلفزة وأصدرت مراسيم قلصت من حرية الصحافة. الأمر الذي لا تزال تداعياته مستمرة حتى الآن.
أضعف كل ذلك المجتمع المدني والحركة النقابية، وجعل هذه القوى تحت رحمة عملاء النظام السوري والأحزاب الطائفية والمذهبية الممسكة بالسلطة.
وليس إجهاض الحراك المدني ذي الطابع العلماني في العام 2015 سوى شاهد على ذلك وأحد نتائج تعطيل الحياة النقابية التي كانت فاعلة ومؤثرة قبل الحرب الأهلية.
أنتج هذا الواقع أمرين مترابطين: الإمساك بالسلطة من قبل ديكتاتوريات لزعماء وأحزاب طوائف وميليشيا سابقة وحالية من جهة، ومأسسة الفساد وتطبيعه.
وتحت شعار التوافق أوصلتنا الممارسات السياسية إلى ائتلاف نخب الطوائف ما أدى إلى إضعاف الدولة ومؤسساتها وتفككها لأنها ذهبت بعيدا في تكريس سلبيات ما سمي عشوائيا "الديموقراطية التوافقية".
في الوضع الذي وصلنا إليه صار يقع على عاتق زعماء الطوائف مهمة القيام بالتسويات السياسية مع بقية الزعماء وتقديم التنازلات لهم، من أجل حفاظ كل طرف على ثقة قواعده الطائفية. وبالطبع لا يتنازل من يملك السلاح. لذلك يكون من المفيد أن يمتلكوا سلطة مستقلة كبيرة وموقعا آمنا في القيادة. هذا ما استتبع، ما هو حاصل الآن، موقعا ديكتاتوريا لكل زعيم طائفة وخصوصا عند الطائفة الشيعية. فحزب الله لا يسيطر على الطائفة فقط بل على لبنان.
في النظام التوافقي يخدم مفهوم الفيتو حماية حقوق الأكثرية والأقلية وهو في الأصل فيتو متبادل. وعندما يستخدم من طرف الأقلية فقط سيصبح حكم ديكتاتورية الأقلية. في العادة لا يتم اللجوء إليه لأن مجرد وجوده يعد ضمانة كي لا يستعمله الخصم في الظروف المعاكسة. تؤدي عادة ممارسة الفيتو أو حق النقض من أحد الأطراف إلى تفاوض وصفقة إجمالية تضمن استمرارية المؤسسات.
لكن حزب الله فرض استخدامه في حده الأقصى وأجبر الآخرين على التنازل أو التعطيل التام. فلقد منع انتخاب رئيس للجمهورية لأكثر من عامين ونصف العام حتى خضع له باقي الأفرقاء، وقس على ذلك.
والفيتو يؤدي إلى تجميد القرارات والركود، والذي لم يكن معروفا في لبنان قبل ممارسته من قبل حزب الله عبر ما سمي الثلث المعطل، مع أنه لا وجود لعبارة تعطيل، بحسب أنطوان مسرة، في أية منظومة حقوقية في أي بلد من العالم! ولقد عدل المصطلح لاحقا فسمي "ضمان" وهو ابتداع من بعض العقول أيضا.
اقرأ للكاتبة أيضا: استغلال "العلمانية" وقضية المرأة للتغطية على الاستبداد: سورية نموذجا
المسألة الأخرى التي ساهمت في تعطيل الحكم في لبنان الفهم السطحي والشعبوي لمفهوم التوافقية الذي طبق على أساس الاتفاق المسبق في جميع القرارات الحكومية وإلا فالتعطيل. أي كما يفهم معنى "توافق" في اللغة الدارجة، وليس بالمعنى القانوني والحقوقي المحدد لحالات معينة.
ولأن مبدأ فصل السلطات يفترض ألا تكون الحكومات مجالس نيابية مصغرة كي لا تؤدي إلى دكتاتورية أقطاب وإلى إلغاء رقابة المجلس النيابي على الحكومة. فلقد ورد صراحة في الدستور اللبناني أن النظام الدستوري اللبناني هو برلماني وبالتالي يخضع لمبادئ فصل السلطات والتضامن الوزاري والتنافس بين أقلية وأكثرية، مع اعتماد أكثرية موصوفة في حالات محددة حصرا في المادة 65.
في لبنان، خصوصا بعد التجربة، تبين وجوب ضرورة احترام المواضيع المحددة التي تخضع للفيتو في مجلس الشيوخ كما نص اتفاق الطائف بحيث يمكن تسيير مصالح الناس أو المواطنين بعيدا عن التعطيل الذي اتخذ كوسيلة للضغط والهيمنة واستبداد الأقلية.
وتمرين الانتخابات الجارية حاليا هي المثال على الفوضى والتفكك الذي أوجده قانون الانتخابات الهجين والمغشوش الذي اعتمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)