خلال القمة العربية الأخيرة في السعودية
خلال القمة العربية الأخيرة في السعودية

بقلم نضال منصور/

انتهت القمة العربية التي أقيمت بمدينة الظهران بالسعودية، وأطلق عليها "قمة القدس" من دون "جعجعة" كبيرة، وبالتأكيد من دون أدنى اهتمام وتعاطف شعبي عربي، ويكاد ينطبق عليها المثل العامي "لا من شاف ولا من دري".

قبل زمن كانت القمم العربية حدثا عربيا يتابعه الناس بشغف وتندر، ليس انتظارا لفتوحات عربية جديدة، وإنما كانوا ينتظرون قصصا طريفة، وشجارات ومشادات تسجلها الذاكرة. وكانت وسائل الإعلام على أهبة الاستعداد لحدث استثنائي كبير، وتستنفر طاقاتها القصوى، وكانت المدن تتهيأ بزينتها انتظارا لمواكب القادة العرب.

وأحيانا كانت الحكومات تجبر طلبة المدارس أن يصطفوا حاملين الأعلام، مرحبين بالزعماء الذين يطلون من سيارات مكشوفة ملوحين بزهو للناس التي أنهكها وأتعبها الانتظار، وما يجبر الضرر النفسي والمعنوي لكل هؤلاء عطلة عن العمل بمناسبة القمة، ولا ضير من تعب قليل وفرصة قد تلوح بالأفق للظهور على شاشات التلفاز لكثير من الناس الواقفين على الأرصفة.

تجاهل البيان الختامي للقمة في الظهران الدعوة للمصالحة الفلسطينية

​​اليوم ما عاد الناس ينشغلون أو يهتمون للقمم العربية، هذا إن كانوا يعلمون بانعقادها ابتداء. وما عادت القمم شيقة مفعمة بالأحداث التي كانوا ينتظرونها في كل قمة بمجرد وصول الزعيم الفاتح "معمر القذافي"، الذي قتل بأيدي شعبه، وصدى صوته ما يزال يتوعدهم ويصفهم "بالجرذان". حتى الحكومات باتت تشعر وكأن انعقاد القمة عبء عليها وتريد أن تنتهي منه بالسرعة الممكنة، فأصبحت القمم يوما واحدا، واختزلت لجلسة واحدة، يسبقها بيان ختامي معد سلفا يصلح لقمم كثيرة ومنسوج بما يحقق التوازنات والتسويات.

اقرأ للكاتب أيضا: في منتدى الإعلام العربي: "السوشيل ميديا" تغزو وتنتصر والصحافة المحترفة تحتضر وتموت!

45 قمة عربية عادية وغير عادية عقدت منذ عام 1946، ومئات القرارات اتخذت ولم تنفذ وظلت حبرا على ورق، بل الأدهى أن تقرأ القرار ونقيضه، ومن لا تسعفه الذاكرة فليقرأ قرارات قمة الخرطوم عام 1967 والتي أعلنت اللاءات الثلاث "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل"، واليوم تتوسل قرارات القمة العربية إسرائيل أن تقبل بمبادرة السلام العربية التي أقرت بمؤتمر بيروت عام 2002، وما سبقها من مبادرات سلام متعددة.

لا تحفظ الذاكرة للقمم العربية الكثير من الانتصارات لشعوبها، وكانت القمم المتعاقبة محطات وسيرة تعكس حالة الصراع والتناحر، وتشتهي أن تتذكر مواقف متفردة مثل قرار قمة الجزائر عام 1973، باستخدام سلاح النفط العربي إبان حرب تشرين الأول/أكتوبر، وقمة الرباط عام 1974 التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وقرار مقاطعة مصر بعد كامب ديفيد بقمة تونس عام 1979.

وما عدا ذلك تطالعك صور لزعماء يغطون بالنوم حتى قبيل افتتاح جلسات القمة، وآخرها كانت للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في قمة عمان العام الماضي، وسقوط الرئيس اللبناني ميشيل عون في ذات القمة، من دون أن يتلقفه أي من الزعماء الذين اصطفوا لأخذ صورتهم التذكارية، أو أن تصبح السقطة اللغوية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين استخدم كلمة "صواريخ بالستيكية​" في خطابه بدلا من "صواريخ باليستية" قصة وسائل التواصل الاجتماعي ومثارا للسخرية.

رحل الكثير من الزعماء العرب الذين كان لهم حضور واضح في القمم العربية مثل جمال عبد الناصر، والملك حسين بن طلال، والحبيب بورقيبة، وصدام حسين، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي، ولكن قصصهم وصراعاتهم استمرت وظلت تحكى وتروى حتى وإن كانت القرارات حبرا على ورق.

انتهت قمة القدس في الظهران من دون أن تلامس أو تقترب من جوهر المشكلات التي تجتاح العالم العربي، اكتفت ببيان ختامي تجنب "تفجير الألغام"، فالقمة التي غاب عنها أمير قطر الشيخ تميم احتجاجا لم تناقش أو تقترب من الأزمة الخليجية المتصاعدة، وأوصدت الأبواب أمام أي محاولات للمصالحة.

وصمتت القمة العربية عن مناقشة الضربات العسكرية التي وجهت لسورية قبل ساعات من انعقادها بتحالف ثلاثي أمريكي ـ بريطاني ـ فرنسي، وكأن الأمر لا يعنيهم، وأعادت التأكيد على أهمية ايجاد حل سياسي ينهي الأزمة السورية، وإدانة استخدام السلاح الكيميائي ضد الشعب السوري، وطالبت بتحقيق دولي مستقل يضمن تطبيق القانون الدولي على من يثبت استخدامه لهذا السلاح، من دون أن تقول أو تسمي من الذي استخدم الأسلحة الكيميائية، هل هو نظام الأسد أم أطراف أخرى؟

البيان الختامي للقمة في الظهران تجاهل الدعوة للمصالحة الفلسطينية، أو التحذير من استمرار حصار غزة وآثاره الإنسانية، ويؤشر هذا الموقف إلى هيمنة الدول التي تدعو إلى عزل حركة حماس أكثر وأكثر وحتى لاعتبارها وتصنيفها كحركة إرهابية توافقا مع الموقفين الأميركي والإسرائيلي.

انتهت قمة القدس في الظهران دون أن تلامس أو تقترب من جوهر المشكلات التي تجتاح العالم العربي

​​أكثر ما كان لافتا في القمة الاهتمام السعودي بإظهار حالة من التضامن والرفض لقرار الرئيس الأميركي ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، ومبادرة العاهل السعودي الملك سلمان لإطلاق اسم "قمة القدس" على القمة المنعقدة في الظهران، والتبرع بـ 150 مليون دولار لبرنامج دعم الأوقاف في القدس.

هذا الاهتمام السعودي بقضية القدس انعكس بشكل واضح في البيان الختامي، وجاء مخالفا للتسريبات والشائعات السياسية والإعلامية طوال الأشهر الماضية عن ضلوع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الترويج لما سمي بـ "صفقة القرن" التي قيل إن الإدارة الأميركية طبختها، ولم يكشف النقاب رسميا حتى الآن عن تفاصيلها، وإن زعمت المعلومات المسربة أنها تنهي أحلام الدولة الفلسطينية بأن تكون القدس الشرقية عاصمتها.

اقرأ للكاتب أيضا: بعد 7 سنوات على المذبحة: "المتصارعون" في سورية طريق مرصوف بجثث الضحايا

قرارات القمة الأخيرة لا تحصن القدس من التفريط ولا تجعلها خطا أحمر لا يجوز المساس به، فالانقلاب على قرارات قبل أن يجف حبرها عادة عربية دارجة، فليس سرا شكوى الأردن من تعرضه لضغوط عربية بسبب موقفه من قرار ترامب باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.

في سياق عدم الاطمئنان يتساءل مسؤول أردني همسا بعد ختام القمة "إن كانت السعودية ستضع الـ 150 مليون دولار بحساب الأوقاف الأردنية صاحبة الوصاية على المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس؟".

أسدل الستار على قمة القدس التي غاب عنها زعماء عرب لأسباب سياسية وصحية، ووجهت أصابع الاتهام بشكل علني لإيران والحوثيين وسكتت عن غيرهم، وتركت للشارع العربي مثلما تعود تاريخيا فرصة التخيل والحدس للكوارث التي قد تتبعها!

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.