بقلم كوليت بهنا/
يمنح العالم المتقدم أهمية قصوى لمفهوم التخصص، حيث تجد أدق أنواع التخصصات، في معظم نواحي الحياة من طب وعلوم ودراسات وأبحاث وتعليم وصناعة وإدارة وغيرها، الأمر الذي مكن هذه المجتمعات من سيطرة نظامها العام على أصغر التفاصيل، والتقاط أي خلل أو فساد وتحديد المسؤولية عنه بدقة، مما سهل تسيير شؤون الحياة العامة وانسيابها بسلاسة على كافة الأصعدة، وبات المواطن يعرف مسبقا أين يتجه دون الدخول في متاهات المعلومات والضياع بين مساربها.
ينطبق الأمر على عالم الفنون، حيث من النادر أن تجد في المسرح أو الأفلام أو المسلسلات من يطلع بكل مسؤوليات العمل الفني، ولكل عنصر فني متخصصيه وفي مقدمها الإنتاج كأول وأهم التخصصات. تليه العناية الخاصة التي تمنح للسيناريو، حيث يضطلع كاتب سيناريو محترف ومتخصص بشؤون النص، حتى لو كان يعود بفكرته لمؤلف آخر يتوقف دوره بعد تقديم الفكرة. ويمنح عنصر الحوار في كثير من الأحيان، حتى وإن كان ينتمي ضمنا للسيناريو، لمتخصص يرسم حواراته الدقيقة منطلقا من حرفية عالية ودراسة أكاديمية تسبر عمق الشخصيات التي يقترحها النص وعمرها وبيئتها وخلفيتها الاجتماعية، وكيفية نطقها ولهجاتها المختلفة ـ إن وجدت ـ عبر الاستعانة أيضا باختصاصيين في هذه اللهجات.
اقرأ للكاتبة أيضا: الصداقات الحذرة
مفهوم التخصص لم ينجح حتى اليوم أن يتجذر في مناحي الحياة العربية أو يترسخ في فكر الأفراد. فما زال الحابل يختلط بالنابل، وليس مستغربا أن تجد طبيب عظم يعالج مرضى القلب، أو سباكا يصلح الكهرباء.
وفي مجال الأعمال الفنية، تعقيبا على ما تقدم، كثيرا ما يضطلع فرد واحد بمعظم مهام العمل من ألفه إلى يائه. فتجد كاتب الفكرة هو المؤلف وهو السيناريست وكاتب الحوار، وإن تمكن بمجهوده الفردي من الحصول على بعض المال، يخترع شركة أو يستعين بشركة لمعارفه ليكون المنتج المنفذ ثم يفرض نفسه مخرجا حتى لو لم تكن له تجارب سابقة، ويختار تبعا لعلاقاته العائلية والشخصية فريقه الفني والممثلين حتى لو كانوا غير مناسبين للنص. وأحيانا يحلو له أن يظهر بدوره كممثل في أكثر من مشهد، ثم يحشر أنفه لاحقا في عمليات المونتاج، دون أن يتنازل عن تدخله في الأزياء والماكياج والموسيقى والديكور.
ولو جربت أن تناقش مخرجا هو المؤلف الدائم لأعماله، أو تقنع كاتب نص غير محترف بضرورة تقديم نصه لسيناريست متخصص، يواجه الأمر غالبا بالغطرسة والرفض، حتى لو اضطر الأمر لنسف العمل برمته.
في بعض الحالات الاستثنائية، يحدث أن يقرر أحدهم أن ينتج عملا بماله الشخصي، ويضطر لشح مورده أن يضطلع ببعض المهام الفنية التي هو قادر على تنفيذها بالاستعانة بالتسهيلات التي تقدمها التكنولوجيا الحديثة مثل المونتاج على أجهزة الكومبيوتر أو الموسيقى أو المؤثرات في سبيل توفير النفقات.
اقرأ للكاتبة أيضا: موسم القتل
قلة من هذه الأعمال الصغيرة نجح أصحابها في الخروج بعمل لا بأس به، لكن الاستثناء يظل استثناء ضمن توجه عام لكتاب وفنانين يرفضون مبدأ المشاركة واحترام التخصصات، أو طمعا بالاستحواذ على أجور هذه التخصصات، الأمر الذي يؤدي بأعمالهم في الغالب إلى أسوأ النتائج.
يقول المثل الشعبي الدارج "أعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه"، وأي عمل إداري أو فني ناجح هو نتيجة تعاون وإيثار وجهود جماعية متضافرة تغيب عنها "الأنا"، والإيمان بأن الصورة العامة الناجحة تصنع من وضع التفصيل المناسب أو الجزء الصحيح في موضعه الصحيح، والرجل المناسب في مكانه المناسب، ولنا في نظام الكون أو جسم الانسان خير نموذجين لمفهوم التخصص، إذ لا يمكن للريح أن تصير جبلا، ولا يقوم الكبد بمهام القلب، وأي خلل في تخصص المهام يعني الكوارث ثم الانهيار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)