عراقي يجدد بطاقته الانتخابية
عراقي يجدد بطاقته الانتخابية

بقلم إياد العنبر/

استخدم أستاذا العلوم السياسية في جامعة هارفارد ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات (Steven Levitsky, Daniel Ziblatt) مفهوم "موت الديمقراطية" في كتابهما "كيف تموت الديمقراطيات: ما يخبرنا التاريخ عن مستقبلنا" الصادر في كانون الثاني/يناير 2018.

يرى مؤلفا هذا الكتاب ـ كما عرضته مجلة الغارديان ـ أن خارطة الأنظمة الدكتاتورية، بالشكل الفاشي أو الشيوعي أو الحكم العسكري المطلق، اختفت في أنحاء كثيرة من العالم. وكذلك الانقلابات العسكرية وغيرها من عمليات الاستحواذ العنيفة على السلطة أصبحت نادرة، ومعظم البلدان تجري انتخابات منتظمة.

بموازاة ذلك لا يزال العالم يشهد موت الديمقراطيات، لكن بوسائل مختلفة! فمنذ نهاية الحرب الباردة، لم تحدث معظم الانهيارات الديمقراطية بسبب جنرالات وجنود، بل بوساطة الحكومات المنتخبة نفسها، مثلما خرب القادة المنتخبون المؤسسات الديمقراطية في جورجيا وهنغاريا ونيكاراغوا وبيرو والفلبين وبولندا وتركيا وأوكرانيا، أو في الحالات القديمة مثل إيطاليا وألمانيا والأرجنتين وبيرو.

فكرة الكتاب توضح بأن التهديد بالموت الذي تواجهه الديمقراطية، يمكن وصفه بالتهديد الداخلي، وتحديدا من قبل القيادات التي تأتي عن طريق الشرعية الانتخابية. إذ يبدأ الانحدار الديمقراطي اليوم من صندوق الاقتراع، فالطريق الانتخابي خادع بشكل خطير؛ فمع الانقلاب الكلاسيكي، فإن وفاة الديمقراطية واضح للجميع، إذ يحترق قصر الرئاسة، أو يقتل الرئيس أو يسجن أو يرسل إلى المنفى، ويتم تعليق الدستور أو إلغاؤه.

أسوء تحد تواجهه الديمقراطية في العراق يكمن في قيام "ديمقراطية من دون ديمقراطيين"

​​أما في الطريق الانتخابي، فلا توجد دبابات في الشوارع، بل لا تزال الدساتير والمؤسسات الديمقراطية الأخرى قائمة، والناس يصوتون، فالمستبدون المنتخبون يحافظون على قشرة الديمقراطية، بينما ينزعون جوهرها.

إذا كانت الديمقراطيات العريقة في الغرب تواجه التهديد بالموت، بسبب أعمال القيادات (الديماغوجية/ الشعبوية) التي تسعى إلى تمركز سلطتها التنفيذية وإضعاف آليات السيطرة والتوزان في عمل المؤسسات السياسية في النظام الديمقراطي، فما هو الحال في بالبلدان التي تمر بمرحلة التحول نحو الديمقراطية كالعراق؟

يبدو أن نقطة الالتقاء بين البلدان ذات الديمقراطية الناضجة ـ كما يسميها صومائيل هنتنغتون ـ وبين البلدان التي تتجه نحو الديمقراطية، هي مأزق صعود القيادات التي تحصل على شرعيتها من الانتخابات. وإذا كانت قوة المؤسسات السياسية في الديمقراطيات العريقة قادرة على الحد من تغول القادة الدغمائيين، فإن المأزق العراقي أكثر تعقيدا؛ إذ لا توجد مؤسسات قادرة على تصحيح مسار الديمقراطية، ولا توجد قيادات أو أحزاب حقيقة تؤمن حقيقا بالديمقراطية وقيمها.

اقرأ للكاتب أيضا: العراق: دولة للفساد فيها سلطان

وعلى الرغم من إيماني بفكرة التقادم بالممارسات الديمقراطية وبأنها الوحيدة القادرة على تصحيح مسار بناء النظام السياسي الديمقراطي، إلا أن تحدي موت الديمقراطية بات يهدد التجربة العراقية!

فعدم وجود قيادات حقيقة تؤمن بالنظام الديمقراطي وبالممارسات والسلوكيات الديمقراطية جعلت المواطن العراقي يتساءل عن جدوى الانتخابات والنظام الديمقراطي، إذ يمكن القول بوجود حالة من الجزع والتفكير بعدم جدوى الديمقراطية باتت تظهر بصورة واضحة في الرأي العام العراقي.

فالعراقيون سوف يتجهون نحو صناديق الاقتراع للمرة الخامسة منذ 2003، إلا أن مشكلة الانتخابات أنها لا تزال غير قادرة على إنتاج نظام ديمقراطي حقيقي. وهنالك شعور عام يفيد بأنها (أي الانتخابات) لن تنتج تغييرا يمس حياة المواطن العراقي.

هذا الشعور العام بعدم جدوى الديمقراطية، ناتج بالدرجة الأساس عن عدم وجود أحزاب وقيادات تؤمن بأن الديمقراطية ليست انتخابات وحسب، بل منظومة مؤسساتية تعتمد الانتخابات كمدخل لمنح الشرعية للنظام السياسي، ومن ثم توثق العلاقة بين المواطن والمؤسسات السياسية. وفي ظل غياب المنجز السياسي والاقتصادي وعدم قدرة النظام السياسي على تحقيق التنمية، فإن التساؤل بشأن جدوى الديمقراطية يبدو منطقيا للوهلة الأولى.

إذا أبعدنا فرضية دور التقادم الجيلي في تصحيح مسار التحول الديمقراطي، فالقيادات والأحزاب العراقية لا تزال تدور في دائرة ما اصطلحوا عليه بـ "نظام المحاصصة". والمشكلة أن هذا النظام الذي هو نتاج لهذه الأحزاب مرفوض ومنتقد في العلن ومعتمد في توزيع مغانم السلطة في الواقع. فالنظام الانتخابي، وتوزيع الهيئات "المستقلة" على مرشحي الأحزاب، ناهيك عن الوزرات والمناصب العليا في مؤسسات الدولة والتي تدار أغلبها بالوكالة، دليل واضح على التعاطي بمنطق الغنيمة مع الدولة.

إنعاش الديمقراطية في العراق لن يكون فاعلا إلا بجرعة أولية تعمل على تغيير النظام الانتخابي

​​والديمقراطية التوافقية، التي تحولت إلى نظام محاصصة، باتت ملعونة من قبل السياسيين العراقيين ويحملونها جميع الأخطاء في العملية السياسية منذ 2003، فيما يتجاهلون دورهم في انحرافها عن غايتها الأساس بتطمين الجماعات المتمايزة عن بعضها الآخر وتبديد مخاوفها، عبر إعطائها حقوقا متساوية فيما بينها، في اتخاذ القرارات في الحكم، وليس تحويل مؤسسات الدولة، بعنوان التوافقية، إلى إقطاعيات طائفية وحزبية وعائلية.

فالديمقراطية التوافقية ـ كما نظر لها آرنت لبهارت ـ تحتاج إلى تعاون بين قادة الطوائف، وهذا يستلزم أن يشعر القادة بشيء من الالتزام بصون وحدة البلد، على الأقل بالممارسات الديمقراطية أيضا، وعليهم أيضا أن يتحلوا بالاستعداد الأساسي للانخراط في الجهود التعاونية مع قادة المكونات الأخرى بروحية الاعتدال والحلول الوسط. ولا بد لهم في الوقت نفسه الاحتفاظ بولاء أتباعهم ودعمهم. ولذلك يتوجب على النخب أن تقوم باستمرار بعملية توازن صعبة. فإذا كانت النخب السياسية العراقية مأزومة بوعيها الطائفي والقومي، وغير مؤمنة بالديمقراطية فكيف يمكن التعويل عليها لإنجاح نظام ديمقراطي؟

التهديدات التي تواجهها عملية التحول الديمقراطي في العراق عديدة ومعقدة، فأسوء تحد تواجهه الديمقراطية في العراق يكمن في قيام "ديمقراطية من دون ديمقراطيين"، كما يصفها غسان سلامة. ولعل نتاجات ذلك نظام انتخابي يراعي بالدرجة الأولى والأخيرة مصالح الأحزاب والنخب السياسية الحاكمة، فهي تنظر إلى الديمقراطية كآلية لتنظيم المشاركة ومنح الشرعية للسلطات السياسية، فحسب، وتتجاهل الغاية الرئيسة من الديمقراطية في تحقيق السلام والاستقرار السياسي والاجتماعي.

وختاما، إنعاش الديمقراطية في العراق، لن يكون فاعلا إلا بجرعة أولية تعمل على تغيير النظام الانتخابي الحالي "سانت ليغوا المعدل"، كونه يرسخ هيمنة الأحزاب والقيادات السياسية، ويجعلها قادرة على تحريف إرادة الناخبين بتوزيع الأصوات على مرشحيها. ومن جانب آخر، هدر الأصوات الانتخابية بتطبيق هذا النظام الانتخابي والتي بلغت في انتخابات 2014 ـ حسب مؤشرات المرصد النيابي العراق ـ "1,903,936" صوتا.

إذا الخطوة الأولى يجب أن تكون باعتماد قانون انتخابي جديد يكون قادرا على كسر دائرة هيمنة الأحزاب والقيادات السياسية على المرشحين. وذلك يمكن أن يتم بصورة تدريجية من خلال اعتماد نظام انتخابي جرى اقتراحه سابقا على رئاسة الجمهورية، إذ يقوم بتوزيع 50 في المئة من المقاعد على أساس الفائز الأول، والـ 50 في المئة الأخرى على أساس قانون "سانت ليغو المعدل" المعتمد حاليا.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.