بقلم منى فياض/
نتلقى آلاف من الصفحات، مقالات ودراسات وأوراق مؤتمرات، من مختلف المنابر والمجلات والصحف وفي مختلف المجالات. كما نقرأ عن جوائز في مختلف الميادين؛ جميعها تذكر بإنجازات الفكر العربي والثقافة العربية والإبداع العربي.
لا شك أن العرب، كأفراد، ينتجون ثقافة وفكرا وأدبا وشعرا وبحوثا في مختلف الميادين؛ وحتى بعض الاختراعات.
لكن عندما ننظر إليهم كمجموعة تنتمي إلى ما يطلق عليه اسم "العالم العربي" وإلى إنجازات شعوبه المتعددة ماذا نجد؟ ليس الكثير. ويكفي لذلك مراجعة تقارير التنمية البشرية أو حقوق الإنسان أو الشفافية أو تحقيق الديمقراطية، سوف نجد أن العالم العربي لم يحقق الكثير، بل العكس، إنهم غائبون عن لائحة الإنجازات الكبرى والتي تغير البشرية إلى غير عودة.
صار العرب وأداؤهم على كل شفة ولسان وموضع تندر أو هجاء؛ بحيث يمكن لمذيع أسترالي أن يتوجه إلى "العرب" مجتمعين، بخطاب مؤنب: ماذا قدمتم للبشرية (في العصر الحالي طبعا كي لا أشاركه في التعميم المجحف)؟
يتابع: نعرف إنجازات الألمان أو الفرنسيين أو الأميركيين أو الصينيين أو الإيرانيين أو الإسرائيليين... لكن ماذا يقدم العرب والإسلام؟ سوى العنف أو الإرهاب؟
اقرأ للكاتبة أيضا: هل النظام اللبناني توافقي حقا؟
هذه هي الصورة عن العرب. ذلك أننا عندما ننظر إليهم كوحدة افتراضية لا نجد سوى التشرذم والحروب والعنف وتأخر التنمية التي تترجم تراجعا وفقرا وبطالة وأمية على أنواعها. يتساءل كثر: أين تكمن المشكلة كي تبقى هذه الرقعة من الأرض على ما هي عليه الآن؟
مم يعاني العالم/ العوالم، العربي/ ـة؟
ليست المشكلة على مستوى الأفراد بالطبع، فالمقولات العنصرية التي تعيد التفوق الثقافي إلى البيولوجيا والعرق أو الإثنية لم تعد مقبولة. يبرهن العرب تفوقهم كأفراد في مختلف المجالات عندما يعملون في الأطر المناسبة في البلدان المتقدمة.
حاول يوفال هراري في كتابه Sapiens، تفسير تفوق صنف الهومو سابينس من البشر على جميع إخوته من الهومو نييندرتال إلى الهومو أركتوس وغيرهما، ونجاحه في القضاء عليهم؛ فكتب:
"في الصراع على مستوى الأفراد يتغلب النييندرتال على السابينس. لكن في صراع بين مئات، لم يكن لدى النيندرتال أقل حظ في الغلبة. كان بإمكان النييندرتال التشارك في المعلومات لكن لم يكن باستطاعتهم التعاون فعليا بأعداد كبيرة؛ ولا أن يكيفوا سلوكهم الاجتماعي بحسب التحديات التي تتجدد بسرعة".
يتخطى الهومو سابينس كل المخلوقات الأخرى بقدرته على التعاون. كان هذا سر نجاح الهومو سابينس.
معظم الباحثين يرتأون أن ما حققه سابينس هي إنجازات بسبب التطور الذي طال قدراته المعرفية. وخصوصا اختراع اللغة التي سمحت بتبادل المعلومات والأخبار وبالثرثرة التي ساعدت على تشكيل زمر bandes أعرض وأكثر ثباتا. ما سمح بإقامة العلاقات، والقدرة على نقل معلومات حتى عن أشياء غير موجودة. فقط السابينس استطاع أن يتحدث عن أي نوع يريد من الكينونات التي لا وجود لها؛ ولم يلمسوها أو يتحسسوها: من قيم وأساطير وآلهة...
إنها الثورة المعرفية التي تحققت وساهمت في تطورهم.
بعد هذه الثورة المعرفية، حلت السير التاريخية محل النظريات البيولوجية كتفسير أساسي لتطور السابينس. فلفهم ازدهار المسيحية أو الثورة الفرنسية، لا يكفي فهم التفاعلات الجينية والهرمونات والأعضاء. من الضروري أن نأخذ في الحسبان أيضا تفاعل الأفكار والهوامات.
هذا لا يعني أن الهومو سابينس والثقافة الإنسانية خرجت عن القوانين البيولوجية. فلا نزال حيوانات، وقدراتنا الفيزيائية والانفعالية والمعرفية مقولبة بالدي أن آي. مجتمعاتنا مبنية بنفس عناصر مجتمعات النييندرتال والشمبانزي، وكلما فحصنا هذه العناصر: إحساس، انفعال، روابط أسرية، كلما نقصت الفروقات بيننا وبين القرود الأخرى.
نخطئ إذا عند بحثنا عن الفروقات على مستوى الفرد والأسرة. إذا أخذنا فردا فردا، أو عشرة عشرة، نحن أشباه الشمبانزي على نحو مؤسف. أينشتاين لم تكن لديه مهارة يدوية، وبالتأكيد مهارته كانت أقل بكثير من مهارة صياد ـ ملتقط.
لا تبدأ الفروقات ذات المعنى بالظهور إلا عند تخطي عتبة الـ 150 فردا؛ أما عندما نصل إلى 1500 ـ 2000 فردا، تصبح الفروقات مذهلة.
لنجمع آلاف الشمبانزي في تيان آن مين أو في وول ستريت (لا أحد يجرؤ على ذكر الساحات العربية بعد) أو الفاتيكان أو الأمم المتحدة، فلن ينتج أي شيء. بالمقابل يجتمع الهومو سابينس دوريا في أماكن مشابهة. ومعا يخلقون بنى منظمة، شبكات تجارية، احتفالات جماعية، ومؤسسات سياسية، ما كان بإمكانهم تحقيقها منعزلين.
بالطبع، كانت المهارات اليدوية ضرورية كمهارات صناعة الأدوات واستعمالها. لكن هذه الأدوات ستكون دون نتيجة إذا لم تقترن بموهبة التعاون مع آخرين كثر.
لنفسر كيف تسنى لنا امتلاك رؤوس نووية؟ بينما منذ 30 ألف سنة بالكاد كنا نصنع العصا بطرف من السيلكس؟
الجواب تسنى ذلك بفضل تحسن مهارة التواصل الهائلة مع حشود من الغرباء. إن طرف العصا بالسيلكس يتطلب عمل عدة دقائق من شخص واحد. بينما إنتاج رأس نووي يتطلب تعاون آلاف من الأشخاص المجهولين عبر العالم.
إن القدرة على خلق واقع متخيل انطلاقا من الكلمات سمح لعدد كبير من المجهولين التعاون معا بشكل فعال.
لم يكن ممكنا قبل الثورة المعرفية إحداث تغير في السلوك دون التغير الجيني (مثل الشمبانزي). بعدها صار بإمكان السابينس تغيير سلوكه بسرعة ونقل الجديد إلى الأجيال اللاحقة.
صار الإنسان يدافع عن الوطن أو عن الدين أو عن حقوق الإنسان. مع أن هذه الأشياء لا وجود محسوس لها خارج تصورات اخترعها البشر وتبادلوها بين بعضهم البعض وآمنوا بها: لا وجود محسوس لآلهة ولا لأوطان ولا لنقود ولا لحقوق إنسان ولا لقانون أو عدالة خارج الخيال المشترك للكائن الإنساني.
وهذا ما لم يتوصل إليه العرب بعد! التعاون من أجل القيم أو الأشياء المشتركة التي يتشاركونها. ربما يفتقدون هذا المشترك الجامع بينهم مع زعمهم أنها العروبة. ربما لم يحددوا بعد أي عروبة؟ هل الشوفينية أم الثقافية؟ يجهلون أن بقاءهم نفسه مرهون بنجاحهم في التعاون من أجل أهداف يحددونها ويعملون لتحقيقها لمصلحة الجميع وليس الأجزاء.
شعوبنا ودولنا أوجدت إطارا جامعا منذ العام 1945 أطلقوا عليه اسم "الجامعة العربية"؛ مع ذلك لم يجتمعوا في الواقع ولا استطاعوا التعاون حقا رغم كل البيانات والقرارات التي يصدرونها. وحتى المجالس الفرعية التي أوجدوها بعد فشل الجامعة في جمعهم تعاني من نفس الأزمة التي تعانيها الجامعة.
اقرأ للكاتبة أيضا: الأيام الأخيرة لمحمد: هل صار نقد التراث ممكنا؟
المنطقة العربية محاطة بثلاث قوميات أصغر عدديا ومساحة من العرب مجتمعين؛ وبينها الكثير من العداء والصراعات ومواضيع التنافر ومع ذلك تجتمع لتتنافس في وضع يدها على البلدان العربية؛ ومع أنها تشهر العداء أحيانا لبعضها البعض، مع ذلك تتعاون في ميادين عدة عندما تفرض عليها مصلحتها ذلك.
تمجد الشعوب العربية الاخوة والعروبة التي تجمعها وتظهر رغبة في التعاون، فيما هي تتناحر فيما بينها وتنقسم اسرا وقبائل وانظمة متنافسة متناحرة ومتعادية. التعاون لديها هو شعار فقط لا غير.
يقارن هراري بين الشمانزي والبشر فيكتب:
الشمبانزي الذكر الألفا يغلب بقوته، القائد السابينس بتحالفاته. فكونوا قادة.
وفي عالم ينحو نحو الترابط أكثر فأكثر، لن يكون بمقدور الكينونات والدول المتفرقة أن تعيش.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)