من تحضيرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات للعملية الانتخابية المنوي إجراؤها في 12 أيار/مايو
من تحضيرات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات للعملية الانتخابية المنوي إجراؤها في 12 أيار/مايو

بقلم زمكان سليم/

مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية على المستوى الوطني في العراق المقرر إجراؤها في 12 أيار/مايو 2018، يعد قادة التحالفات الانتخابية في البلاد بتغيير طبيعة الديناميكيات السياسية في العراق في المستقبل من خلال اتباع سياسات وأجندات غير طائفية تخدم مصالح جميع المواطنين العراقيين. ومع ذلك، تشير الحقائق والظروف القائمة في العراق بصورة واضحة إلى أن الطائفية وسياسات الهوية ستظل قوى فعالة تؤثر إلى حد كبير على تشكيل السياسة الداخلية للعراق في المستقبل.

ولم تكن التغييرات الأخيرة في الطبيعة الطائفية للسياسات الداخلية في العراق، ولكن في ميزان القوى العرقي الطائفي الذي تحول بدرجة كبيرة لصالح الشيعة في العراق. فقد تمكن الشيعة في الآونة الأخيرة، وهم الأغلبية المهيمنة في العراق منذ عام 2005، من فرض سيطرة شبه مطلقة على المؤسسات الحيوية للدولة والموارد والخطاب الرسمي.

ومن خلال محاربة تنظيم "داعش"، أصبحت إدارة الأمن والشؤون الإدارية رهن "قوات الحشد الشعبي" و"قوات الأمن العراقية" في المحافظات السنية العراقية مثل ديالى وصلاح الدين والأنبار والموصل. وفي السنوات الثلاث الماضية، أشركت "قوات الحشد الشعبي" عددا كبيرا من المقاتلين القبليين السنة والإداريين الحكوميين الموالين للشيعة ويتمحور برنامجهم السياسي حول المناطق العراقية السنية المثبطة. كما ويوجه الشيعة حركة السكان السنة، ويطلبون منهم الحصول على إذن من "قوات الحشد الشعبي" و"قوات سورية الديمقراطية" وحلفائهما المحليين في المحافظات السنية العراقية حتى يتمكنوا من العودة إلى مناطقهم السنية.

سمحت سيطرة الطبقة الحاكمة الشيعية على الموارد الاقتصادية للدولة بتثبيت أقدامها من خلال بناء شبكات متينة من المحسوبيات

​​وفي ردها على الاستفتاء حول الاستقلال غير الحكيم في إقليم كردستان العراق الذي أجري في تشرين الأول/أكتوبر 2017، أزالت الحكومة العراقية ذات القيادة الشيعية السلطة الكردية عن الأراضي المتنازع عليها، بما في ذلك مدينة كركوك الغنية بالنفط، واستبدلتها بسلطة بغداد. ونتيجة لمحاولة الانفصال الفاشلة، أجبرت الحكومة العراقية الأكراد على تسليم إدارة المطارين الدوليين في المنطقة الكردية إلى جانب المعابر الحدودية الرسمية التي تربط كردستان بالعالم الخارجي وبالسلطات الاتحادية.

ومن خلال هزيمة "داعش" عسكريا وتهشيم محاولات الأكراد للاستقلال، رسخت القوى السياسية الشيعية هيمنتها على العراق، كما أشاد القادة الشيعة بالإنجازات الأخيرة كمكاسب لكل العراقيين في محاولة لإعادة تنشيط النزعة القومية العراقية بين السكان العرب في البلاد وتسهيل شرعية حكومة يسيطر عليها الشيعة في العراق.

ولم تكن النجاحات التي حققتها الدولة العراقية ذات القيادة الشيعية مؤخرا ممكنة لولا مساعدة صريحة من إيران وتركيا والائتلاف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لمحاربة "داعش". وقد أثبتت الدول العربية الإقليمية القوية حديثا بالقول والفعل ـ مثل السعودية التي سبق أن صورت السلطات الشيعية في بغداد بأنها دمى في يد إيران، وبالتالي رفضت التعامل معها ـ أنها على استعداد لفتح صفحة جديدة مع الحكومة العراقية من خلال إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها.

ولدى الفصائل الشيعية العراقية أسباب إضافية للتوصل إلى توافق في فترة ما بعد الانتخابات. إذ سيقوم الدعم والاعتراف الدوليين، بالإضافة إلى عدم وجود منافسين محليين جديين، بقولبة سياسات وطموحات الفصائل الشيعية العراقية، التي ستركز على ضرب موقعها المتميز في العراق في المستقبل. فمن المرجح أن يسيطر الشيعة بعد الانتخابات المقبلة باعتبارهم أصحاب النفوذ الأبرز في العراق، في حين أن العرب السنة والأكراد لن يكون أمامهم خيار سوى تأدية دور الأخ الأصغر للشيعة في حكم العراق.

وتجدر الإشارة إلى أن شيعة العراق ليسوا موحدين، وتتنافس مختلف الجماعات والفصائل الشيعية بشراسة على السلطة والنفوذ فيما بينها. ومع ذلك، لا ينوي أي من هذه الفصائل الإطاحة بالنظام العرقي الطائفي الحالي القائم في العراق لصالح إنهاء الطائفية في البلاد.

وقد تمحور أحد العوامل الرئيسية التي وحدت معظم الفصائل الشيعية المتنافسة في العراق منذ عام 2005 حول تخصيص منصب رئيس الوزراء لشخص شيعي، وهو أهم منصب سياسي في البلاد. كما وأن معظم التحالفات الشيعية القوية التي تشكلت بهدف خوض الانتخابات العامة المقبلة تؤمن ببناء دولة قوية مركزية كحل لمشاكل العراق الكبرى. وهذا سيضمن أن صنع القرار الاستراتيجي في العراق سيبقى بين أيدي الفصائل السياسية الشيعية.

ولا تصل نزعة بعض الفصائل الشيعية العراقية للحد من نفوذ إيران في العراق إلى حد التزام جدي بين الجماعات الشيعية القوية لإنهاء الطائفية السياسية في البلاد. فإن تصنيف الجماعات الشيعية بين المعسكرات المؤيدة لإيران والمناهضة لها هو تبسيط لعلاقة أكثر تعقيدا بين الجمهورية الإسلامية والفصائل السياسية الشيعية في العراق. إذ تربط الأواصر الدينية والتاريخية والسياسية القوية جميع الفصائل الشيعية بإيران، حيث كانت وستستمر طهران في استخدامها لأغراض استراتيجية، بما في ذلك تعزيز مكانة إيران في المنطقة. وبالمثل، استخدمت الفصائل الشيعية العراقية، البعيدة كل البعد عن أن تكون دمى بأيدي إيران، دعم طهران لتعزيز مصالحها السياسية الداخلية وحمايتها.

ولم يمنع وجود الروابط مع إيران الفصائل الشيعية العراقية من بناء علاقات مع الحكومة الأميركية. وبالمثل، لم تصبح الشخصيات والمجموعات الشيعية العراقية القريبة من أجندة الولايات المتحدة عدوا لطهران في العراق.

فقبل نهوض تنظيم "داعش" في منتصف عام 2014، كان نوري المالكي، وهو رئيس الوزراء العراقي السابق الذي يقود تحالف دولة القانون والمعروف بصلاته الوثيقة مع النظام الحاكم في طهران، يتمتع بدعم واشنطن ومساعدتها. وعلى نحو مماثل، فإن حيدر العبادي، وهو رئيس الوزراء الحالي الذي يقود "تحالف النصر" والمعروف بأنه حليف للولايات المتحدة والغرب، لا يتحدى النفوذ الإيراني في العراق، بل يحظى في الواقع باحترام الأوساط ذات النفوذ ضمن النخبة الحاكمة في إيران. فقد زار العبادي طهران واجتمع ونسق مع كبار الوفود الإيرانية في بغداد.

ويمكن للطبقة السياسية الشيعية في العراق أن تبني علاقاتها الخارجية على حسابات براغماتية. ومن المرجح أن تستفيد من تمتعها بالاحترام والاعتراف بها من قبل اللاعبين الإقليميين والدوليين ذوي النفوذ لإضفاء الشرعية على هيمنتها المحلية على بقية المجتمعات العراقية. وبصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية، يتميز جميع أعضاء الفصائل السياسية الشيعية العراقية القوية بأنهم متدينون ويحركهم نوع من مصير وحدة الشيعة الذي يتم الترويج له الآن على أنه قومية عراقية.

ولم يستفد جميع شيعة العراق من الهيمنة السياسية لقادتهم، وظل الكثير منهم فقراء وعانوا في ظل الدولة التي يشوبها الاختلال والتي يسيطر عليها الشيعة والتي فشلت إلى حد كبير في تحقيق تطلعات معظم المواطنين العراقيين.

كما ويظهر مستوى عال من السخط بين المواطنين الشيعة في العراق حيال حكم الأقلية الشيعية، لكن من المبكر جدا الجزم بأن هذا الاستياء الشعبي سيترجم إلى قوة تستبدل الطبقة السياسية الشيعية الحالية خلال الانتخابات العامة العراقية المقبلة.

وقد ساهمت الحرب الطائفية والتوترات التي حدثت خلال السنوات الخمس عشرة الماضية في تعزيز روح التضامن بين المواطنين الشيعة في العراق، ما شكل صعوبة في الوثوق بالمرشحين والأحزاب غير الشيعية. علاوة على ذلك، سيكون من الصعب جدا ألا يتأثر شيعة العراق بالنداءات التي يوجهها قادة "قوات الحشد الشعبي" ـ المجموعة في تحالف الفتح الانتخابي بزعامة هادي العامري ـ ورسائلهم التي تسلط الضوء على تضحيات القوات الشيعية وشجاعتهم من أجل إنقاذ المجتمع الشيعي العراقي من ويلات تنظيم "داعش".

لم يستفد جميع شيعة العراق من الهيمنة السياسية لقادتهم، وظل الكثير منهم فقراء

​​بالإضافة إلى ذلك، سمحت سيطرة الطبقة الحاكمة الشيعية على الموارد الاقتصادية للدولة بتثبيت أقدامها من خلال بناء شبكات متينة من المحسوبيات، ما لم يترك مجالا واسعا أمام منظمات المجتمع المدني الفعالة والأطراف العلمانية للازدهار داخل المجتمع الشيعي. وكونها تسيطر على وسائل إعلام متعددة، تؤدي الأحزاب الشيعية التقليدية أيضا دورا مهما في صياغة الخطاب الشيعي العام بطرق تخدم مصالحها السياسية.

وفي السياق نفسه، تفتقر الفصائل الشيعية والسنية والكردية في العراق إلى إرادة والتزام جديين لوضع العراق على مسار تؤدي فيه القيم والكفاءات الديمقراطية، عوضا عن الهوية والاعتبارات الطائفية، دورا في تحديد مستقبل العراق السياسي. وإلى جانب الميل الواضح لضمان سيطرتهم على الحكم في العراق، يفتقر القادة السياسيون الشيعة إلى استراتيجيات طويلة الأجل ومتينة لإدارة بلد متعدد الأعراق ومتعدد الطوائف يقع في أكثر مناطق العالم تعرضا للتقلبات.

فعلى سبيل المثال، لم تقدم الفصائل الشيعية رؤية واضحة حول كيفية التوفيق بين مركزية الدولة ومطالب الكثير من العرب السنة بتفويض السلطة والحكم الذاتي الإقليمي. فضلا عن ذلك، فشلت الطبقة السياسية الشيعية في العراق في تقديم اقتراح مقنع وواقعي حول كيفية حل القضايا المزمنة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وإقليم كردستان العراق، ويشمل ذلك تقاسم عائدات النفط العراقي ومسألة الأراضي المتنازع عليها. علاوة على ذلك، لم تقترح الفصائل الشيعية الحاكمة في بغداد استراتيجية شاملة لإعادة إعمار المناطق السنية التي دمرتها الحرب ضد "داعش" ومنع ظهور التطرف الديني في صفوف العرب السنة في العراق في المستقبل. وتشكل هذه التساؤلات لب النجاح في بناء عراق قوي وموحد.

ويجب ألا تقتصر استراتيجية الحكومة الأميركية في العراق على الحد من نفوذ إيران في العراق. فإن التغاضي عن طموحات الفصائل الشيعية المهيمنة بفرض مشيئتهم على بقية المجتمع العراقي تحت ذريعة إقامة عراق موحد هو وصفة لتكرار الكوارث السابقة.

ويتعين على الحكومة الأميركية أن تكون مستعدة للاضطلاع بدور فعال في عملية تشكيل الحكومة بعد الانتخابات في العراق من خلال دعوة القادة الشيعة إلى التفكير خارج إطار السيطرة على السلطة ووضع استراتيجيات تعود بالمنفعة على جميع المواطنين العراقيين.

ويتعين على واشنطن أيضا أن تشدد وتؤكد لأصحاب المصلحة الشيعية العراقيين المستقبليين أن الالتزام الحقيقي بتقاسم العراق مع مواطني البلاد، بصرف النظر عن خلفيتهم العرقية والطائفية، من شأنه أن يؤدي إلى تماسك البلاد والحفاظ على وحدتها واستقلاليتها.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.