بقلم حسن منيمنة/
تحفل كتب التاريخ الثقافي واللسانيات التاريخية بالإشارات المسهبة إلى اللغة العبرية الحديثة كظاهرة لغوية فريدة. فهذه اللغة، والتي تعود جذورها إلى ما تطورت إليه اللغة الكنعانية قبل أكثر من ألفي عام، والتي كتبت فيها أسفار التوراة، ثم تداخلت مع اللغة الآرامية في المراحل التلمودية، كانت قد اندثرت كلغة حية يستعملها العامة في أمورهم اليومية، وإن حافظ عليها علماء الدين اليهودي كلغة عليا لتبقى أساس الشعائر والطقوس وبعض الأدب.
ومع قيام الصهيونية، كحركة إحياء قومي وثقافي واجتماعي، ثم مع الهجرة الوافدة من الشتات اليهودي إلى فلسطين، توسع نطاق اللغة العبرية وتأثيرها من وظائفها العليا إلى كافة أوجه التخاطب، فتشكلت اللغة العبرية الحديثة لتحل محل اليديشية واللادينو واللهجات العربية المختلفة وغيرها من اللغات المتداولة في المجتمع الإسرائيلي الناشئ. هي تجربة فريدة بالفعل، فبعد أن كانت اللغة العبرية حكرا على آلاف قليلة من علماء الدين والأدباء، أصبحت اليوم لغة الحياة والثقافة والعلم لما يزيد عن سبعة ملايين متكلم بها.
يشار إلى هذه التجربة أحيانا باسم "المعجزة العبرية". قد تكون بالفعل كذلك، غير أن القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين شهد عددا من التجارب اللغوية التي تستحق النظر والتقييم، سلبا وإيجابا، من المسعى اليوناني إلى التموضع ضمن منظومة اللغات الأوروبية إلى فعل الاجتثاث التاريخي واللغوي للخلفية العربية والفارسية من اللغة التركية (وبقدر أقل المحاولة المشابهة في الإطار الفارسي للتخلي عن المخزون العربي والتركي). أما التجربة الأعمق أثرا والأنجح، بالمعايير الكمية على الأقل، فتكاد أن تضيع عن الذكر نتيجة الإصرار العقائدي على افتراض الثبات والوحدة حيث التحول والتعدد، وهي تجربة اللغة العربية الفصيحة المعاصرة.
ولاستيعاب حجم "المعجزة" اللغوية هنا، لا بد من العودة إلى مطلع القرن التاسع عشر للنظر بحال ما قدر له أن يسمى، بعد أكثر من قرن، "العالم العربي". ففي هذا العالم حينذاك، لم يكن الوعي الجمعي واحدا، ولم يكن الحكم موحدا، والعربية لم تكن على الغالب لغة الدول الحاكمة. ومعظم التقديرات تفيد أن نسبة المتمكنين من القراءة والكتابة كانت أقل من الخمسة بالمئة، وبمجالات مهنية ضيقة معظمها في الوظائف الدينية.
اقرأ للكاتب أيضا: كي لا تعترض مسيرات العودة حق العودة
أما على المستوى الاجتماعي، فالترابط الثقافي بين الأطراف في هذا الفضاء المكاني الواسع كان ضعيفا. حال عالم العربية يومئذ كان أشبه بحال عالم اللاتينية مع نهاية القرون الوسطى الأوروبية. لغة مشتركة تكاد أن تقتصر على شريحة علماء الدين، ولهجات تطورت وتباعدت ولم تعد قادرة على تحقيق التفاهم خارج النطاق المحلي المحدود.
في السياق الأوروبي، كان الناتج اللغات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية وغيرها من اللغات التي طمستها أو كادت جهود التوحيد القومية في المراحل التالية.
أما في السياق العربي، فلا شك أن المكانة الدينية الخاصة للغة العربية الفصحى قد أخرت التشكل الكامل للغات المحلية بالصيغة الفصيحة المكتوبة، دون أن يعترض هذا التأخير التطور الطبيعي للغات المحلية باتجاه التباعد والاختلاف.
"معجزة" اللغة العربية الفصيحة المعاصرة هي أنه في فترة زمنية وجيزة أصبحت لغة متداولة ومشتركة بين أكثر من ثلاثمئة مليون ناطق بها، بل ارتقت إلى مصاف اللغة العالمية، بعد أن كانت تقتصر قبل أقل من قرنين على بضعة آلاف من المتمكنين بها.
ولا بد من التأكيد أن اللغات المحلية في المجتمعات التي تغلب فيها العربية اليوم لا تزال على درجة مرتفعة من التباعد، بحيث يكاد ألا يتمكن العراقي والجزائري، أو اليمني والمغربي، أو البحريني واللبناني، مثلا، من التخاطب إلا بالارتفاع عن اللهجة المحلية إلى بعض اللغة الفصيحة (أو إلى لهجة متوسطة مكانيا) ليتحقق معه قدر مقبول من التفاهم. هذا بعد قرابة القرن من الضخ الإعلامي المسموع ثم المرئي باللغة واللهجات التي يشترك فيها الفهم، وبعد قرن ونصف القرن من الجهد التعليمي.
فرغم الإصرار على اعتبار اللغات المحكية في العالم العربي لهجات، فإن كل منها واقعا لغة متكاملة في صرفها ونحوها ومفرداتها، ولكنها في معظمها لغات ممنوعة من أن تحقق لذاتها إنتاجا أدبيا يوطد قدرتها على التعبير عما في قلوب الناطقين بها، دون الإصرار على التهذيب في القول والعبارة وفق مقتضى اللغة الفصيحة المقررة.
ونحن هنا أمام إجحافات متراكمة.
الإجحاف الأول في الإصرار على تسمية اللغة الرسمية "الفصحى"، وهي ليست كذلك، بل العربية الفصحى هي وحسب لغة القرآن الكريم والشعر الجاهلي وعصر الاحتجاج، وما تلاها هي لغات عربية فصيحة تنضوي على كم من التنوع يكاد في أكثر من موقع أن يرتقي إلى الفصل النوعي، والأصح أن تعرف باسم أزمانها، عربية فصيحة وسيطة اتسمت بالتكلف، ثم عربية فصيحة معاصرة تحررت منه. وفي تصحيح التسمية توضيح عدم شمول القداسة اللغة الفصيحة، وحصرها بالفصحى في استعمالاتها الدينية.
الإجحاف الثاني هو في عدم الإقرار بحجم "المعجزة" اللغوية التي تحققت مع اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، وهي "معجزة" تبهت معها "معجزة" اللغة العبرية. ولكن الاعتزاز بها يقتضي الاعتراف بأن العربية الموحدة المفترضة والموسومة خطأً بالفصحى لم تكن اللغة السائدة على مدى المكان والزمان العربيين. ومع ذلك الإقرار القرين بأن التحول في اللغة، سابقا ولاحقا هو الأمر الطبيعي والمحمود.
الإجحاف الثالث هو بعدم إدراك دقة المنظومة الناتجة عن هذه "المعجزة" وقوتها، فاللغة العربية المعاصرة لا تقتصر على اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، بل تشمل كذلك النسيج الثري والمتواصل من اللغات المحكية المحلية والتي يعترض بعض أهلها حتى على كتابتها. فلا تجلي لهذه الثروة اليوم إلا في حالتين، كلاهما خارج النطاق العربي ولكل منها شوائب، الأولى في مالطا، حيث الرواية الرسمية تنفي الأصل العربي وتسعى إلى بديل وهمي هو الأصل "الفينيقي"، فيما المالطية هي بالفعل عربية محكية مكتملة قدر لها أن تدون، والثانية في السودان الجنوبي حيث لغة جوبا، هذه العربية المحكية الجميلة، لا تعامل بالقدر الذي تستحقه من العناية. وتصحيح هذا الإجحاف لا ينقص من العربية الفصيحة ولكنه يحرر اللغات المحلية من الطعن بها كعدوة للغة الفصيحة، ويعيد لها الاعتبار كخزان للغة الفصيحة وواجهة لها في الوقت نفسه.
الإجحاف الرابع هو بإهمال ما أقدم عليه أهل العربية على مدى تاريخها الطويل، من الالتزام بأنه لكل مقام مقال، فكان للقبائل في جزيرة العرب لغاتها، وكان لها جميعا لغة مشتركة في الحج والمواسم والأعياد، ثم كان للحواضر الناطقة بالعربية استعمالاتها الخاصة، وإن امتنعت عن تسرب هذه الاستعمالات إلى الإطار الديني.
فالمجتمعات العربية تثابر اليوم على تطبيق هذه المعادلة، لها لغاتها في فنها وإعلاناتها وثقافتها المحلية، ولها اللغة الفصيحة المشتركة في نتاجها الثقافي لما يتجاوز الإطار المحلي. ولكن الموقف العقائدي هو أنه لا بد من الوحدة والنقاء. فالاستعمال الطبيعي يمسي آفة، واللغات المحكية مدانة ما أن تدون، ويغرق أنصار العربية المطلقة بالتأسف على انحدار واهم.
اقرأ للكاتب أيضا: سورية مسؤولية العالم الذي خذلها
الإجحاف الخامس هو أن آفة الرغبة بالتأحيد قد تجاوزت حدود اللغة العربية في سياق هذه المجتمعات لتنتقل إلى لغات أخرى. ثمة إصرار هنا لدى العقائديين الأمازيغ على التماهي مع نظرائهم العروبيين عند الإصرار على تأحيد اللغات الأمازيغية المتعددة خطا وقاموسا وقواعد. والعدوى تطال كذلك السياق الكردي، وهي في جميع هذه الحالات، عربية وأمازيغية وكردية، تسطيح وهدر لثروات لغوية صدر الحكم عليها بالزوال.
الإجحاف السادس هو في فرض اللغة العربية الفصيحة المعاصرة خارج موقعها في إطار سياسة تعريب تعليمية تسعى نظريا إلى التأكيد على قدرة العربية على التعبير العلمي، في فعل يغدو وحسب خطوة واهنة لمعالجة القلق الحضاري لا الحاجة المادية. إذ الأجدى أن ينصب الاهتمام، كما في المجتمعات المطمئنة، على تطوير قدرة الإنسان العربي، لا اللغة العربية، على التعبير العلمي، وإن جاء تعبيره بلغة غير العربية. هذا حال اليابان، هذا حال الصين، هذا حال الهند، وليست هذه مجتمعات يجوز أن تتهم بأنها غير عابئة بثقافاتها ولغاتها.
رغم هذه الإجحافات، فإنه لا خطر على اللغة العربية المتكاملة، طالما هي لغة منتجة لمجتمعات حية ولفكر متطور، إنما الخطر هو على مجتمعاتها مع السعي المتواصل إلى تكبيلها ونفي مقوماتها ومنعها من الإنتاج لاعتبارات عقائدية، وهو في تحويلها من وسيلة تعبير عن الذات إلى أداة أخرى من أدوات الكبح والقمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)