الدمار في أحد أحياء مدينة حمص السورية (أرشيف)
الدمار في أحد أحياء مدينة حمص السورية (أرشيف)

بقلم منى فياض/

تثير العولمة المتسارعة شتى ردود الفعل. فهي، بالإضافة إلى موجة اللجوء، تسببت بموجة أوروبية عارمة لحماية حدود الدولة القومية.

هناك تيار عالمي عابر للدول معاد للعولمة ويطالب بالحفاظ على الخصوصيات الثقافية. من الملاحظ أن الولايات المتحدة أكثر عرضة للمشاعر المعادية كرد فعل على هذه العولمة؛ وذلك لأن الجميع يعتبر أنها تجسدها، فهي الأكثر قدرة على التأثير على عدد كبير من الدول، وثقافتها هي السائدة. فمن لا يتحدث الإنكليزية الآن أو لا يشاهد أفلام هوليوود أو لا يتعامل بالدولار أو لا يتناول الكوكا والهمبرغر؟

ليس المقصود من هذه الملاحظات إطلاق الأحكام السلبية. لكن الإشارة إلى أن غلبة النموذج الأميركي عموما، يجعل منها رمز العولمة، أو تجسيد الإمبريالية في نظر خصومها.

وكلمة إمبريالية، صفة للإمبراطورية، تأتي في قائمة النعوت السلبية على الصعيد السياسي بعد النازية. وفي اللاتينية أمبريوم، تعني الحكم والسيطرة على أقاليم كبيرة. هذا في الوقت الذي تفخر فيه الدول باستقلالها وبحدود دولها ـ القومية الناجزة. لكن إذا عدنا الى التاريخ، نجد أن الدولة بشكلها الحالي وحدودها المستتبة هي شكل حكم جديد تماما لم يكن معروفا قبل حوالي مئتي عام. فالإمبراطوريات كانت شكل التنظيم السياسي السائد خلال آخر 2500 سنة. معظم البشر خلال هاتين الألفيتين عاشوا في إمبراطوريات جمعت شتاتا من آلاف القبائل والشعوب في إطار واحد وثقافة واحدة.

صحيح أن بناء الإمبراطوريات والحفاظ عليها يلزمه إراقة الكثير من الدماء إضافة للقمع الوحشي لمن تبقى؛ وأن الحروب والاستعباد والترحيل والإبادة الجماعية هي أدوات الإمبراطوريات الكلاسيكية؛ وأنها كانت تلقى مقاومة شرسة كما حصل عند اجتياح الرومان لاسكتلندا في عام 83 ميلادي، حيث تعرضوا لمقاومة شرسة من القبائل المحلية الكاليدونية فردوا بتدمير البلد.

اقرأ للكاتبة أيضا: على هامش القمة العربية... ما لم يتعلمه العرب بعد: التعاون

مع ذلك نجد أن النسل البيولوجي للشعوب التي قاومت، انتهى بها الأمر إلى التماهي مع تلك الحضارة. يتكلمون لغتها ويعبدون آلهتها. ذلك أن انتهاء الإمبراطورية الرومانية على يد القبائل الجرمانية عام 476 لم يؤد إلى نهوض مئات الشعوب التي كانت قد احتلتها روما، إذ لم يكن قد بقي منها شيء.

إن هدم الإمبراطوريات لا يحرر الشعوب الخاضعة، إذ إن إمبراطورية جديدة تندفع لملء الفراغ المتروك.

هذا لا يعني أن الإمبراطوريات شر مطلق وأنها لا تترك خلفها إلا الدمار. إن صبغ كل الإمبراطوريات بالأسود يعني التنصل من كل إرث إمبريالي، ويعني رمي الجوهري من الثقافة الإنسانية.

فالنخب الإمبريالية تستعمل فائضها المالي ليس فقط لتمويل الجيوش والقلاع لكن أيضا لإنتاج الفلسفة والفنون والآداب والعلوم. إن نسبة مهمة من الإنتاج الثقافي للإنسانية تعود لفائض استغلال الشعوب المغزية. فمكاسب الإمبريالية الرومانية أعطت لشيشرون وسينيك وسانت أغوستين وقت الفراغ اللازم والموارد الضرورية كي يتفرغوا للتفكير والكتابة؛ وما كان يمكن بناء تاج محل دون الثروات المكدسة جراء استغلال المونغول للهنود ولما تمتعنا بموسيقى هايدن وموزارت دون المعاشات التي أمنتها لهم الإمبراطورية الهبسبورغية.

سنجد الميراث الإمبريالي عند الناس العاديين في غالبية الثقافات العصرية. معظمنا يتحدث ويفكر ويحلم اليوم باللغات الإمبريالية التي فرضت على أجدادنا بالسيف. في شرق آسيا معظم السكان يتحدثون ويحلمون بلغة إمبراطورية الهان الصينية. وبغض النظر عن أصولهم، معظم سكان الأميركيتين، يتحدثون 4 لغات إمبريالية: الإسبانية والبرتغالية والفرنسية أو الإنكليزية.

المغاربة والمصريون اليوم يتحدثون العربية ويتماهون مع العروبة ويعتبرون هوية الإمبراطورية العربية التي غزت مصر في القرن السابع وسحقت الثورات التي انفجرت ضد هيمنتها هويتهم. وذابت جميع الشعوب التي كانت موجودة.

لا تسقط الإمبراطوريات عموما إلا بفعل غزو خارجي أو انشقاق على مستوى النخبة الحاكمة. كان يصعب دائما على الشعوب الخاضعة أن تتخلص من حكامها الإمبرياليين؛ فهي ظلت خاضعة لقرون طويلة، وتم هضمها ببطء من قبل الإمبراطوريات الغازية، مستوعبين الثقافة الجديدة.

ما نلاحظه الآن أن الثقافة العالمية ليست متجانسة؛ لكنها كالجسم الذي فيه أعضاء مختلفة. الجميع مرتبط بشكل متقارب ويتبادلون التأثيرات بطرق عديدة. بالطبع لا يزالون يختلفون ويتقاتلون لكن باستخدام نفس المفاهيم والأسلحة.

بالرغم من كل ذلك نجد أن هناك من يتكلم حتى الآن عن ثقافات "حقيقية ـ أصلية". فإذا كنا نقصد بهذه الكلمة أن شيئا ما تطور بشكل مستقل عما حوله وأنه مكون من تراث محلي قديم منعزل عن تأثيرات الخارج، فبهذا المعنى لم يعد هناك ثقافات حقيقية أو أصلية.

خلال القرون الأخيرة، غيرت التأثيرات العالمية جميع الثقافات بحيث صار يصعب التعرف عليها. كل الثقافات لديها على الأقل جزء موروث من الإمبراطوريات والحضارات الإمبريالية السابقة، ولا يمكن لأي جراحة في العالم أن تنجح باقتطاع الميراث الإمبريالي دون قتل المريض.

وأفضل مثال على العولمة المطبخ "الإثني". في إيطاليا السباغيتي وصلصة البندورة التي لم تكن معروفة قبل اكتشاف أميركا، تماما كالبطاطا التقليدية في مطعم إيرلندي أو الشوكولا السويسرية أو الشاي في الهند أو الأرز في الخليج.

لكن الأغرب، في ظل هذا المد الجارف للعولمة، أن دولة إقليمية مثل إيران تظن في نفسها الأهلية لأن تغزو وتحتل دولا وتغير في ديمغرافيتها وتتلاعب بالأديان والمذاهب فيها وتقتل وتستبيح الأوطان من أجل استعادة إمبراطوريتها الغاربة وفرض ثقافتها الفارسية وباسم الإسلام المستورد من المنطقة العربية.

هذا الزعم بامتلاك ثقافة فارسية نقية أو متفوقة ومحاولة فرضها بالقوة لا يتماشى لا مع الوقائع التاريخية ولا مع سيرورة واتجاه التاريخ ولا مع أوضاعها الذاتية. فالحضارة الفارسية نفسها ليست أكثر من هجين نتج عن الحضارات التي تتالت على بلاد ما بين النهرين من سومرية وأكادية وآشورية وبابلية وميدية وكلدانية وغيرها؛ والتي سبقتها بمئات السنين.

فحتى حوالي العام 900 قبل الميلاد لم يكن هناك أي ذكر لما يسمى فارس أو فارسي؛ كانوا جزءا من شعوب وقبائل متفرقة كما كان الجميع والعرب بينهم. وتجمع كتب التاريخ على أن الفرس كانوا محكومين من الآشوريين والبابليين قبل أن يستفيقوا ما بين الأعوام 550 و500 ويهبطوا من هضبتهم ليهاجموا بابل، ويتغلبوا عليها باستخدام القوة والدهاء.

ويعتقد أنهم اتخذوا الدين والتنظيمات وحتى صناعة السجاد من الآشوريين. هذا مع العلم أنهم لم يستطيعوا فرض لغتهم؛ ربما لقصر مدة هيمنتهم نسبيا وللمنافسة التي عرفوها خصوصا من الحضارة الهللينية والرومانية إضافة إلى تأثير اليهودية والمسيحية.

على كل حال يعتقد أن المعتقدات والممارسات الدينية التي كان يؤمن بها السومريون والأكاديون الساميون الشرقيون والأشوريون والبابليون كان لها تأثير كبير ليس على الفرس فقط بل على الديانات اللاحقة في جميع أنحاء العالم.

أما عن الحاضر فالسؤال كيف يمكن لنظام يعاني من مشاكل داخلية متفاقمة إن على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أن يتصرف كإمبراطورية ويسيطر على عدة بلدان في نفس الوقت وهو بالكاد يتمكن من السيطرة على شعبه نفسه!

سبق أن توقع فوكوياما في "القمة العالمية للحكومات" في الإمارات في شباط/فبراير الماضي، أن تنفجر إيران من الداخل نتيجة عوامل عدة؛ أبرزها وجود طبقة مدنية شابة متعلمة، خصوصا النساء، لم تعد راغبة في الخضوع لبنية السلطة الإيرانية الحاكمة المحافظة في قيمها الريفية المنشأ في الغالب. ومظاهرات ديسمبر/كانون الأول الماضي تشهد على التململ الكبير في صفوف البيئة الحاضنة في الأرياف للنظام. ولقد اعترف خامنئي نفسه مؤخرا "بضرورة إصلاح قلب النظام الإيراني لمنع سقوطه".

إن العنف والتشرذم المنفلت في المنطقة إضافة لطموحات إيران "الإمبريالية" غير الواقعية، مقابل اتجاهات العالم حاليا، يجعل المنطقة وكأنها ذاهبة عكس منطق التاريخ. أو أنها دخلت دهليزا تحارب فيه بالسيف في وقت تحولت فيه الحروب إلى رقمية وسايبيرية وإلى البحث في مستقبل البشر في ظل الذكاء الاصطناعي.

اقرأ للكاتبة أيضا: هل النظام اللبناني توافقي حقا؟

في هذا الوقت يتجه العالم نحو إمبراطورية واحدة كونية شاملة، الأمر الذي سبق أن توقعه كانط. فحركات رؤوس الأموال العملاقة واليد العاملة والمعلومات تشبك العالم وتقولبه؛ وهي تحتقر الحدود ورأي الحكومات. المزيد من الشعوب تعتقد أن مصدر السلطة الشرعية لا تنبع من أعضاء هذه القومية أو تلك الدولة، بل من البشرية جمعاء، وأن حفظ حقوق الإنسان وحماية مصلحة النوع الإنساني، هو المبدأ الذي يجب أن يقود السياسة.

كما أن ظهور مشاكل عالمية بشكل جوهري، كذوبان الكتلة الجليدية، يطرح مبكرا ضرورة التعاون بين الدول فليس هناك من إمكانية لدولة سيدة بمفردها أن تحل مشكلة المناخ وثقب الأوزون وتأثير الدفيئة.

كما لم يعد بإمكان أحد أن يطبق سياسة اقتصادية مستقلة، أو أن يعلن بمفرده حروبا أو حتى أن يدير أموره الداخلية كما يريد. وتتعرض الدول أكثر فأكثر لمزيد من تدخل المنظمات الأهلية العالمية ولرقابة الرأي العام العالمي وللمنظومة القضائية العالمية.

هذا من دون ذكر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات والمفتوحة على المجهول.

في المقابل، يخضع الإيرانيون لحكم رجال يزعمون أن خامنئي ظل الله على الأرض، بانتظار المهدي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.