بقلم حسن منيمنة/
لماذا حدثت سلسلة الانتفاضات التي سميت، وإن لفترة عابرة، بـ"الربيع العربي"؟ بما أن ما جرى سرعان ما انحدر بالمجتمعات التي شهدته إلى القتل والدمار، فإن التحليلات قد جنحت باتجاه التأكيد أن الأمر كان مؤامرة وحسب، والمتآمرون هم المشتبه بهم دوما، الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عموما، مباشرة أو بأدوات محلية. طوبى لمن يحنق ويتشنج ويشتم ويتعالى للتأكيد على هذه القناعة الإيمانية. غير أن ثمة جمهور واسع لا يكفيه الكم المتراكم من القراءات المتقوقعة، ويجد أن لا بد بالتالي من الشروع بمتابعة نقدية للوقائع والمعطيات.
العوامل الموضوعية والدوافع الذاتية هي بطبيعة الحال متشعبة ومتداخلة، وتختلف كما ونوعا من مجتمع إلى آخر، كما يتباين تأثير الجهات الخارجية التي سعت إلى التدخل، للاستفادة أو لدرء الخطر عن نفسها. ثم أنه لم يمض القدر الكافي من الزمن لجلاء الصورة. فالعديد من محاولات الاستشفاف، على تضاربها في أكثر من حالة تبدو مقنعة كل على حدة، وإن خفتت قدرتها على تفسير ما حدث عند إضافة سائر المقاربات إليها.
هل كان الدافع الثورة على الفساد ورفض الاستبداد من جانب جيل خبر تقنيات التواصل الاجتماعي فأصبح أكثر اطلاعا وأكثر قدرة على التنظيم؟ هل الأمر كان تعبير عن احتقان اقتصادي اجتماعي في بلدان لا يستقيم فيها الانتاج والاستهلاك؟ أية مسؤولية، فعلا وتركا، للولايات المتحدة التي يلومها البعض لسعيها إلى التخلي عن دورها كمرجعية أمنية وسياسية ضامنة للاستقرار، فيما يطعن فيها البعض الآخر لسعيها المزعوم إلى إحكام قبضتها على المنطقة وثرواتها، طمعا بها أو ضمانا لأمن "ربيبتها"؟ وأي دور، فاعل أو مفعول به، للحركات الإسلامية، إخوانية وسلفية وجهادية، في التعبئة والحراك والقتال؟ وأين وقعت مصالح الدول المحيطة بالعالم العربي، إسرائيل طبعا، ولكن إيران وتركيا كذلك، بالإضافة إلى روسيا، والتي حققت في سنوات الأزمات العربية عودة كقوة عظمى بمواجهة الولايات المتحدة؟ هذه وغيرها من الأسئلة تشكل الأجوبة الشافية عليها شرطا للاستيعاب الوافي لمرحلة "الربيع العربي". غير أن هذه العوامل، وغيرها، ما كانت قادرة على التأثير لولا أن الإطار البنيوي للدول المعنية كان قابلا له.
ومن المفيد هنا اعتبار طبيعة "العقد الاجتماعي" في السياق العربي ومقارنته بما يقابله في الدول الأكثر استقرارا. "العقد الاجتماعي"، والمصطلح كما المفهوم نشأ في الإطار الغربي، هو التوافق الضمني على مستوى المجتمع، والسابق للدولة والدستور، حول الأسس التي يقوم عليها العيش المشترك بين أفراد هذا المجتمع وعن توقعاتهم من الهيئات التي قد يجري تشكيلها لتأطير هذا العيش. أي أن "العقد الاجتماعي" هو الأساس الذي يمهد لقيام الدولة ولإعداد دستورها. فهو أكثر ثباتا واستمرارا من كل من الدولة والدستور. فالدولة قد تسقط بفعل انقلاب أو ثورة والدستور قد يعدل أو يعلق، مع استمرار "العقد الاجتماعي" كمرجع ضمني لقواعد السلوك الاجتماعي والسياسي ولما ينتظر من أي واقع جديد. أي أن "العقد الاجتماعي" هو مخزون القيم المشتركة بين أفراد المجتمع.
اقرأ للكاتب أيضا: اللغة العربية الفصيحة المعاصرة: "المعجزة" والإجحافات
ويرتبط تطور مفهوم "العقد الاجتماعي" بالحداثة المتشكلة في أوروبا في عصر نهضتها ثم في عصر أنوارها، والتي تدرجت لتعتبر جملة من الحقوق الإنسانية على أنها "طبيعية" غير قابلة للنقض أو التصرف من حيث المبدأ، ولا سيما منها "الحياة والحرية وطلب السعادة"، ولترى أن هذه الحقوق تصان لجميع المستحقين (أي الرجال الأحرار ابتداء، مع استثناء العبيد وتقييد حقوق النساء والأطفال) ضمن إطار الدولة الخادمة لمواطنيها، لا الحاكمة لرعاياها.
الإشارة إلى سمة "الطبيعية" في وصف هذه الحقوق يبين القناعة بأنها لم تكن أفكارا مستحدثة بالنسبة للناظرين بها، بل إجلاء وإعراب لقيم حاضرة في الوجدان الإنساني وإن كانت تفتقد التعبير الجلي.
يذكر هنا أن الأصول الفكرية لهذا التوجه، من دون افتراض العلاقة السببية مع عدم إسقاط تأثيرها بالكامل، كانت قد برزت في المحيط الإسلامي في إطار الخلاف الكلامي حول طبيعة الحسن والقبيح، بين من يعتبرهما عقليَين، ومن يصر على أنها نصيَين، ومن يرى كونهما فطريَين، أي "طبيعيَين". بل يمكن استشفاف منظومة حقوقية متكاملة، وإن اختلف المصطلح والتركيز، في مقاصد الشريعة، حيث حفظ النفس هو الحق بالحياة، وحفظ العقل هو الحق بالحرية، وحفظ العرض هو الحق بالكرامة، وحفظ المال هو الحق بالملكية، وحيث حفظ الدين هو التعبير المقابل للعقد الاجتماعي.
والواقع أن "نظام الحكم" في كل من العالمين الأوروبي والإسلامي كان على درجة مرتفعة من التشابه. هنا وهنالك، السائد كان الحكم الاستبدادي السلالي. ومهما حاول الإسلاميون اليوم تلميع التاريخ، فإن أي من الدول الإسلامية، بعد الجيل الأول، لم تعتمد لا الشورى ولا النص ولا الاستخلاف، بل ما ساد هو التلاحق الوراثي ومنطق القوة. هذا فيما التفرق والفتن وقتل الخلفاء كان الغالب على الجيل الأول. وهنا وهنالك كان هم الفرد صون بعض ماله من الجباية وصون بعض أبنائه من التجنيد، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم غلب عليها البطش والإكراه من الأول، والطاعة القسرية من أجل البقاء من الآخر.
حال المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة واسطنبول كان حال روما وآخن وباريس ولندن. غير أن ما جرى في أوروبا، وفي بعض مستعمراتها، هو أن الأحوال الموضوعية، من فتوحات وثراء ورخاء وتقدم، أتاحت المجال للانتقال بالقناعات الحقوقية من التنظير إلى التطبيق، في الإطار الخاص الضيق طبعا، أي فيما يطال المجتمعات الأوروبية نفسها دون غيرها، وإن كان الثمن المزيد من الاسترقاق للأفارقة وما يقارب الإفناء للسكان الأصليين في العالم الجديد.
المهم في هذا السياق هو تلقي المستجدات الأوروبية في الإطار المتوسطي، العثماني والمصري والمغربي، إذ بالتوازي مع الجهد الأوروبي للتوسع والاستعمار، شهدت المنطقة مساع على مستويات عدة لكسب التجربة الأوروبية. ولم تكن المستويات الاجتماعية الأهلية غائبة عن محاولات الكسب هذه، غير أن جل هذه المحاولات أقدمت عليه النخب السياسية ثم الفكرية. وإذا كان القرن التاسع عشر مرحلة استيعاب الأفكار الأوروبية، فإن القرن العشرين شهد الاستحواز العربي (كما العالمي) للنظم الإدارية الأوروبية، فكان بناء الدولة العربية الحديثة.
من حيث الشكل والنظم والأطر الإدارية المعتمدة، شذب القرن العشرون الدولة العربية الناشئة، على تفاوت بين حالاتها، وفق الصيغة الأوروبية. إلا أن هذا التقدم في الهيكل لم يصاحبه تطور مكافئ في المضمون، فبقي العقد الاجتماعي ملتبسا مأزوما. من حيث المبدأ، توافقت المجتمعات العربية على مفهوم الدولة الخادمة لمواطنيها، ولكن من حيث الواقع، فإن الاستبداد بقي سيد الموقف.
الدولة العربية الحديثة ليست حداثية، أي أنها لا تحكم من منطلق سيادة المواطن وخادمية الحاكم، بل على أساس "الهيبة" التي يجمعها الحاكم من اعتبارات ترهيب وترغيب. أما ما يقوم مقام العقد الاجتماعي فصيغة مخضرمة تجمع المفهوم الحداثي القائم على حقوق للمواطن والمفهوم الأول القائم على وجوب الطاعة لصاحب الهيبة والقوة.
وإذا كان الترهيب قائما على التأرجح المرعب، كما في مواقف معمر القذافي، أو على البطش المتعمد، كما في مجزرة حماة لحافظ الأسد، أو الترويع المتواصل، كما في عراق صدام حسين، فإن الترغيب، في عموم العالم العربي، جمهورياته وملكياته، استعار من الاشتراكية عناوينها في صياغة جديدة للأبوية. فالمقايضة هنا هي أن الدولة تتوقع من المواطن الطاعة والصمت السياسي إزاء الواقع القائم والسكوت عن سلوك الحاكم ومن نال رضاه، مقابل باقة من الخدمات أهمها الصحة والتعليم والتوظيف والتقاعد.
اقرأ للكاتب أيضا: كي لا تعترض مسيرات العودة حق العودة
انتفاضات "الربيع العربي" جاءت تعبيرا عن عجز الأنظمة عن الإيفاء بوعود المقايضة. ولكنها مقايضة مستحيلة، قبل الربيع العربي وبعده، ذلك أن الدولة عاجزة عن تحقيق القدر الكافي من هذه الخدمات إلا من خلال تجويفها وإفراغها من مضمونها، كله أو بعضه. حتى دول الخليج، ذات الدخل المرتفع والصناديق السيادية الهائلة، أمست تدرك أنها تسير نحو الاستنزاف ما لم تضع حدا لدعم السلع وتعمد إلى إلغاء المخصصات والامتيازات، وما لم تلجأ إلى الجباية الضريبية. والمسألة أكثر حدة وخطورة في "الجمهوريات" حيث المعادلة أكثر صعوبة، بموارد أقل ومسؤوليات أكثر.
هي القيادات إذن التي تجد نفسها مضطرة إلى الإخلال بالعقد الاجتماعي القائم، وهي القيادات التي تجد نفسها مضطرة، للمحافظة على هيبتها، إلى التعويض عن الترغيب بالترهيب. نظام دمشق قد يكون التجسيد الأبشع لهذا التوجه، ولكنه ليس الوحيد. ومن شأن مضاعفة الترهيب وتخفيض الترغيب أن يحقق النتيجة المطلوبة إلى حين. غير أن الاستمرار بالترهيب أمر مرتفع الكلفة، ونتائجه العرضية هي في فرز الجمهور إلى أكثرية ترضى مكرهة بالخضوع، وتتقلص إن تراجع الترهيب، بل تحتاج إلى مضاعفته الدورية لإبقائها مكسورة، وإلى أقلية مستهدفة بالقمع الشديد، إنما من ينجو منها ينتقل إلى خانة الخطر على أمن الدولة.
لا شك أن الأنظمة الاستبدادية قد تمكنت وبكل اعتزاز من استعادة ما خسرته في الربيع العربي، فباستثناء تونس لم تحقق انتفاضاته مقصدها. ولكن انتصار القيادات ليس عودة إلى سابق عهد منظومة الدول العربية، بل إلى ما يشبهها، مع هيبة أقل، وزخم جديد من الترهيب. أي مع تفريط كبير بالعقد الاجتماعي القائم والمأزوم أصلا. والرابطة الاجتماعية دون هذا العقد واهية، فمجتمعات الثورة المضادة معرضة باستمرار للاستقطاب والتعبئة، على المستويين الفكري والتنظيمي، والجهد المطلوب لمنع هذا الاستقطاب معرض للارتفاع بما يصل إلى حد استنزاف طاقة السلطات. ومن لم يرقه الربيع العربي الأول لا بد له من مواجهة ما يقارب حتمية الربيع العربي الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)