تنتخب في العاصمة اللبنانية بيروت
تنتخب في العاصمة اللبنانية بيروت

بقلم حسين عبد الحسين/

في انتخابات لبنان البرلمانية، استكملت "الجمهورية الإسلامية" في إيران سيطرتها على حكومة بيروت ومؤسساتها بفرضها نظام مكافآت للحلفاء وعقوبات للخصوم، باستثناء حزب "القوات اللبنانية"، الذي نجح في مضاعفة عدد مقاعده في "مجلس النواب" لتصل إلى 15 من 128 مقعدا، على الرغم من عملية التخوين التي شنها "حزب الله" ضد "القوات"، والتي تضمنت اتهامات غير قابلة للتصديق من قبيل أن "القوات اللبنانية"، الحزب ذي الغالبية المسيحية، من حلفاء تنظيم داعش الإسلامي المتطرف.

وكان الخاسر الأكبر في انتخابات 2018 رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، الذي تقلصت كتلته من 33 إلى 21 مقعدا. على أن التقلص هذا لا يمثل نهاية الحريري سياسيا، بل يرمز إلى تحوله من لاعب يمكنه التصرف باستقلالية عن إيران وممثلها في لبنان، أي "حزب الله"، إلى لاعب يعتمد في بقائه السياسي على رضى الحزب، على غرار السياسيين اللبنانيين ممن سبقوه في إعلان الولاء للحزب المذكور وللجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكان في طليعتهم ميشال عون، رئيس الجمهورية، واليوم نسيبه ووريثه الموعود وزير الخارجية جبران باسيل.

اقتربت إيران من تحقيق رؤيتها للبنان المبنية على حكم أوحد بيد رجلها نصرالله وخلفه "مجلس نواب" يصفق له

​​وتضمنت المكافآت التي وزعها "حزب الله" على حلفائه من السياسيين اللبنانيين جنرالات سابقين على أنواعهم، منهم من ساهم في انقسام "الجيش اللبناني" في زمن الحرب الأهلية، وتاليا تقويض سلطة الدولة اللبنانية، ومنهم من كان مسؤولا عن أمن البلاد أثناء عملية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في العام 2005.

هكذا أكدت الانتخابات اللبنانية سطوة "حزب الله" وسيطرته المطلقة على لبنان. ومن الآن فصاعدا، أصبح الحزب المذكور صاحب سلطة وصاية على لبنان وزعمائه، بقوتيه العسكرية والسياسية. وتحول شعار الحكومات المتتالية "الشعب والجيش والمقاومة"، وهو الشعار الذي يناقض الدستور اللبناني، ميثاقا وطنيا لبنانيا جديدا يمنح شرعية كاملة لميليشيا مسلحة لا سيطرة لدولة لبنان عليها.

اقرأ للكاتب أيضا: أكاذيب إيران النووية

وهكذا أيضا أكدت انتخابات 2018 المزيد من انخراط لبنان، "شعبا وجيشا ومقاومة"، في "منظومة الممانعة" الإقليمية، التي تديرها طهران، وهي منظومة شعارها المفترض مناصرة مستضعفي العالم في وجه الاستكبار، التسمية الإيرانية للإمبريالية، ولكنها في الواقع إمبريالية إيرانية تستعيد تاريخ الإمبراطوريات الفارسية وتحاول إعادة إحيائه.

والواقع أن إيران تحاول إعادة تكرار تاريخها بحذافيره، فهي لم تخلف في المساحات التي حكمتها عبر التاريخ آثارا فكرية أو لغوية أو مؤسساتية، بل تركت وراءها جنرالات محليين تسلطوا على شعوبهم باسم "ملك الملوك في إيران"، وهو الذي يتجلى اليوم على شكل "المرشد الأعلى".

"نحمي ونبني" هو الشعار الذي رفعته لوائح "حزب الله" الانتخابية في لبنان، وهو نفس الشعار الذي يرفعه "تحالف الفتح" الانتخابي العراقي، الذي يقوده زعيم الميلشيات العراقية هادي العامري.

أكدت الانتخابات اللبنانية سطوة "حزب الله" وسيطرته المطلقة على لبنان

​​وكما في لبنان، تسعى طهران لتكرار تجاربها السياسية والانتخابية في العراق بتقويضها نفوذ أي زعيم تسول له نفسه إمكانية التصرف كزعيم مستقل خارج عن إدارة طهران. بهذه الطريقة، أخرجت إيران ثلاثة رؤساء حكومة من الحكم وحولتهم إلى زعماء يستجدونها حتى تسمح لهم العودة إلى نعيم السلطة. أما الرسالة الإيرانية، التي صارت مفهومة في بيروت وبغداد، وقريبا في دمشق، فمفادها أن طهران لا تمانع الزعامات المحلية وبعض الاستقلال الذاتي لهم، لكنها تشترط أن ينخرط هؤلاء الزعماء في منظومة إيران العالمية لـ"مواجهة الاستكبار"، وأن يترك الزعماء المحليون للإيرانيين قرارات الأمن والسياسة الخارجية في بلدانهم.

اقرأ للكاتب أيضا: دلائل استخدام الأسد السلاح الكيماوي

في الأسابيع والأشهر والسنوات التي تلت اغتيال رئيس حكومة لبنان رفيق الحريري في العام 2005، كرر زعيم "حزب الله" حسن نصرالله دعوته إلى الزعماء المحليين، ممن ثاروا على الحزب في حينه، وكان في طليعتهم عون والنائب وليد جنبلاط وسعد الحريري، للسير بتسوية خلاصتها أن الإنماء والإعمار لهم والأمن والدفاع لحزب الله. لم يوافق زعماء لبنان في حينه على عرض نصرالله، لكن بسبب ضيق أفقهم وشبقهم للسلطة ومنافستهم لبعضهم البعض، نجح "حزب الله" بتقليص أدوارهم الواحد تلو الآخر. فمن فهم منهم رسالة نصرالله ووافق عليها، مثل بري وجنبلاط، حافظ له "حزب الله" على زعامته، ومن خال نفسه ندا للحزب، مثل الحريري وباسيل، انتهى في موقع الضعيف المستجدي للحزب لبقائه في السلطة.

في انتخابات لبنان 2018، فازت إيران، واقتربت من تحقيق رؤيتها للبنان، وهي الرؤية المبنية على حكم أوحد بيد رجلها نصرالله، وخلفه "مجلس نواب" يصفق له.

ــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.