تظاهرات مناهضة للاتفاق النووي مع إيران في نيويورك عام 2015 (أرشيف)
تظاهرات مناهضة للاتفاق النووي مع إيران في نيويورك عام 2015 (أرشيف)

بقلم نيرڤانا محمود/

"الاتفاق النووي مع إيران كان من أسوأ الصفقات التي دخلتها الولايات المتحدة على الإطلاق وأكثرها انحيازا".

بهذه الكلمات القوية، أنهى الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشاركة الولايات المتحدة في خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، المعنية ببرنامج إيران النووي. وقد خلف قراره احتجاجا دوليا من مؤيدي الاتفاق، وبعض الإطراء من آخرين معارضين له. وقبل ثلاث سنوات كتبت أنا ضد الاتفاق النووي مع إيران، وما زلت اليوم أقف ضده.

الاتفاق النووي لم يكن أبدا بشأن طموحات إيران النووية، فبالنسبة لملالي إيران كانت الصفقة أداة لانتزاع اعتراف، ولو كان غير مباشر، من الغرب بأن نظامهم المعادي للحداثة نموذج ناجح وصالح للبقاء. في 2015، قلت إن أي آمال في أن تتخلى إيران عن "مسار العنف والأيديولوجية المتشددة" بعد عقد صفقة مع قوى الغرب، قد تكون محض أمنيات. وبعد ثلاثة أعوام، لا يزال دور إيران المسمم في الحرب الأهلية السورية ودعمها الحوثيين في اليمن وهيمنة ممثلها في لبنان حزب الله، كلها حقائق لا تنكر. لقد تأكدت صحة مخاوفي.

الأنظمة الغربية تزعم محاربة الأنظمة غير الليبرالية لكنها تهرع لعقد صفقات مع نظام إسلاموي معاد لليبرالية

​​إلا أنه من المثير للقلق والإحباط أن نرى كثيرا من الليبراليين الغربيين يدعمون الاتفاق النووي بالرغم من الدمار الذي تسبب فيه الدور الإيراني في بلدان عديدة في الشرق الأوسط. والأسوأ من ذلك أن هذه البلدان لا تزال تدافع عن إيران.

قبل أسابيع قليلة، أبهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المستمعين في الكونغرس الأميركي بدفاعه عن النظام الليبرالي الغربي. "لقد واجهنا الموت مرات لا تحصى، لأن لدينا التزاما تجاه الحرية والديموقراطية"، هكذا قال الرئيس الفرنسي، وأضاف "نحن وحلفاؤنا الدوليون وشركاؤنا نواجه أزمات عدم المساواة التي خلقتها العولمة، وتهديدات لكوكبنا وللصالح العام، وهجمات على الديموقراطيات من خلال معاداة الليبرالية، وزعزعة استقرار مجتمعنا الدولي من قبل قوى جديدة ودول إجرامية".

اقرأ للكاتبة أيضا: أزمة قطر: لماذا تشكل الإمارات هاجسا للقطريين

ومع ذلك، في نفس الخطاب دافع الرئيس الفرنسي عن الاتفاق النووي مع إيران، وواصلت فرنسا مع ألمانيا وبريطانيا دعم الاتفاق حتى بعد قرار الرئيس ترامب بالانسحاب منه.

تناقض كهذا في الموقف الفرنسي يلخص الخلل في الأنظمة الغربية الحالية: هذه الأنظمة تزعم محاربة الأنظمة غير الليبرالية لكنها تهرع لعقد صفقات مع نظام إسلاموي معاد لليبرالية. هذه الأنظمة تواجه تهديدات إرهابية ولكنها مستعدة لإبرام اتفاقات تجارية مع من يقدسون ويمجدون الموت.

وفي الشرق الأوسط هناك أنواع مختلفة من الأنظمة المعادية لليبرالية، لكن أسوأها هو النوع الإسلاموي. الإسلام السياسي بفرعيه السني والشيعي هو أيديولوجية ظلامية مغرقة في الرجعية تزعم توفير بديل للحداثة الغربية. إلا أن الإسلامويين يفضلون أن يقدموا النسخة الأكثر تطرفا من أيدولوجيتهم لجمهورهم المحلي ويخاطبون جمهورهم الغربي بنغمة أخرى.

لسنوات، شاهدت بعض الإسلامويين وهم يحاولون إظهار أيديولوجيتهم على أنها غير ضارة وتتسق مع القيم الغربية. والإيرانيون على الخصوص برعوا في مثل هذا التوجه.

استغل الإيرانيون صعود داعش، وهي الجماعة السنية الأصولية، لإظهار الميليشيات المدعومة من إيران كجماعات مكافحة للإرهاب، وكانت هذه كذبة هائلة.

في الواقع، كلا فرعي الإسلاموية يتشاركان الكثير من المعتقدات ولم تعد هناك فروقات في الهمجية بين الجماعات الأصولية السنية والشيعية. ويبقى الاختلاف الوحيد هو أن الجماعات الشيعية هي بشكل مباشر تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني الذي يمول ويدرب الأصوليين ويوجه همجيتهم بعيدا عن أعين الغرب وفي الأراضي الأهم بالنسبة له، بالتحديد في العراق وسورية. وعلى الجانب الآخر، الأصوليون السنيون أكثر تنوعا وتمكنوا من الانتشار في عدة دول غربية.

النظام الإيراني لا ينوي التخلي عن برنامجه النووي وأيديولوجيته الإسلاموية العابرة للقوميات

​​في الأول من شباط/فبراير 1979، سافر آية الله الخميني من فرنسا إلى إيران على متن رحلة الخطوط الجوية الفرنسية رقم 4721.، ولخصت ملامح وجهه المتجهمة ورداؤه الأسود القدر الذي ينتظر المنطقة في السنوات التالية. حكم الخميني كان شرارة لمنافسة قذرة بين الأسود والموحش وما هو أسوأ، وخلفاؤه لم يجربوا حتى الوسطية، بل قمعوا بلا هوادة ثورتين في إيران ودعموا بربرية الأسد في سورية، في الوقت الذي كانوا يلعبون فيه أمام الجمهور الغربي دور الحمائم في مواجهة الصقور.

اقرأ للكاتبة أيضا: مصر وإثيوبيا واحتمال حرب المياه

الليبرالية لا تعني الانتقاء بين ماركات مختلفة من الإسلاموية، ولا تعني كذلك اتخاذ موقف وسط بين الإسلامويين وغيرهم من المسلمين. الليبرالية هي في الوقوف بصف القيم الغربية ضد من يحاولون تقويضها، لأن الإسلامويين ليسوا ولن يكونوا أصدقاء للغرب. والأهم من ذلك أن القوى الليبرالية يجب ألا تمكن أيا من فروع الإسلاموية على حساب الآخر. فهذا التمكين قد يكون شرارة لتنافس بينهم سيقود لمزيد من الهمجية وسفك الدماء في الشرق الأوسط.

أنا لا أدعو لتغيير النظام في إيران وبالتأكيد لا أدعم حربا نووية في المنطقة، لكن لنكن واضحين. النظام الإيراني لا ينوي التخلي في آن واحد عن برنامجه النووي وكذلك أيديولوجيته الإسلاموية العابرة للقوميات.

وعلى ذلك، يجب على داعمي الاتفاق النووي مع إيران أن يقروا بأن آمالهم في أن تتحول إيران للوسطية كانت مجرد أمنيات. إقرار كهذا سيكون خطوة أولى للخروج من الأزمة الجارية والتخطيط لمستقبل أفضل خال من محاولات تجميل الإسلاموية.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.