من احتفالات التيار الوطني الحر بعد انتهاء الانتخابات اللبنانية
من احتفالات التيار الوطني الحر بعد انتهاء الانتخابات اللبنانية

بقلم منى فياض/

انتهت الانتخابات اللبنانية بنتائجها المخيبة، لكن المنتظرة، في ظل القانون العتيد. ولم يدهش أحد مما حصل قبل الانتخابات وخلالها وبعدها من استخدام جميع وسائل الترهيب والترغيب، ناهيك عن مخالفات القانون والتزوير الذي صور ووثق ووزعت مشاهده على مختلف وسائل الاتصال؛ بانتظار تقديم الطعون إلى المجلس الدستوري لكي يدرسها ويتخذ موقفه منها.

سيكون لدينا برلمان يتصف بغرائبية تمثيلية غير مسبوقة. نواب حصلوا على عشرات آلاف الأصوات وآخرون على العشرات منها فقط، مع عشرات آلاف الأصوات الملغية وفي ظل نسبة اقتراع أقل من الانتخابات النيابية السابقة؛ علامة على امتناع المواطنين المشاركة في انتخابات تنعدم ثقتهم بها وليأسهم من إمكانية التغيير في الوضع القائم. وبحسب خبراء فان من هم في السلطة لا يمثلون سوى 26 إلى 30 من الناخبين من الناخبين، أي ما يوازي 15 إلى 20 في المئة من اللبنانيين.

تحاول العصبيات والمجموعات أن تحافظ على استقلاليتها وحرية تحركها ذلك أن جوهر وجودها يكمن في التحرك الحر

​​كل ذلك يطرح الشكوك حول الانتخابات، ذلك أن الديمقراطية لا تتعلق فقط بمجرد إجراء الانتخابات؛ إنها أيضا مسار قبل الانتخابات وخلالها وبعدها، من تحركات مواطنية تتمكن من تشكيل مجموعات ضغط لتؤسس للتغيير الاجتماعي ما يؤدي إلى إنشاء أحزاب جديدة مع برامج يمكنها أن تحدث التغيير المطلوب على مستوى العمل السياسي؛ كلها شروط مفقودة. وإذا كانت الانتخابات هي الطريق لتبادل السلطة وتقويم مسارها، فالأهم منها القانون الذي أجريت على أساسه؛ ناهيك عن قيام البرلمانيين بمهامهم حقا، في سن القوانين بينما لدى رئيس المجلس القدرة على تعطيله تماما.

ولن أكرر هنا مواصفات القانون اللبناني الذي تشخصن وصيغ وأقر على مقاس من هم في السلطة لاستعادة تموضعهم فيما بينهم ووضعت العراقيل أمام من لا يملكون ماكينات وإمكانات ضخمة.

اقرأ للكاتبة أيضا: انتخابات لبنان: فوضى وتحريض وسلب الناخب حريته

لكن ذلك لا يعني أنه لم يكن ممكنا للمعارضة أن تنجح في إيصال ممثلين عنها وبقدر معقول فيما لو كان أداؤها مختلفا وعرفت أن تتهيأ وتتعاون فيما بينها على غرار ما قامت به الطبقة السياسية رغم تناحرها.

سأحاول هنا تحليل سلوك الجمهورين، الموالي والمعارض، لفهم ما أنتجته الانتخابات.

طبعت سمتان الانتخابات اللبنانية: سمة العصبية الخلدونية، وسمة الذهنية العربية الغالبة. فلقد أظهرت الانتخابات أن العصبيات، بالمفهوم الخلدوني التراثي، ما زالت حية بعد أن تعصرنت وتأقلمت مع المستجدات عند فئات عديدة من المجتمع اللبناني لكنها أكثر ما ظهرت عند من اقترعوا للثنائية الشيعية تحديدا.

أما ما طبع سلوك "المعارضات" التي وصفت "بالمدنية" فتنطبق عليها مواصفات الذهنية العربية كما عرفها فؤاد اسحق الخوري (الذهنية العربية)؛ فالأشخاص بحسبه أشبه بحبات العنقود المستقلة والمنفصلة لا تقوم قيامتها إلا بقيادة أمير. فالكل يريد تبوء المركز الأول لأن مطلب المساواة ليس سوى ستارة سعيا وراء الهيمنة. من هنا كانت صعوبة تشكيل اللوائح لأن الكل يريد تبوء الصف الأول على رأس اللائحة. الكل يريد أن يكون البطل الذي يتكرر مع تعاقب الأزمنة.

هذه الذهنية التي لا تعرف التعاون ولا التنازل عن المصلحة الفردية من أجل مصلحة الوطن، وتمنع أي تقدم على الصعيد اللبناني. وكنا نأمل أن ممثلي المجتمع المدني اللبناني قد تخلصوا منها لكن تبين أنهم لم يفعلوا للأسف.

وإذا كان هذا حال المجتمع المدني، نجد في المقابل أن الجمهور الذي يعترض ضمنا على سياسات وأداء ممثليه في السلطة ويعود لينتخبهم صاغرا ضاربا حقه بمحاسبتهم عرض الحائط، لاختلاط الديمقراطية في أذهانه مع ما يلاقيه من كرم ورحابة صدر وأبوة قائده، خصوصا قبيل الانتخابات، وتوجهه الشخصي نحوهم وإبداء استعداده للتجاوب مع رغباتهم.

وكأن الديمقراطية مجرد طريقة تعامل وتفاعل شخصي بين الناس تمارس بشيء من اللين بين الحاكم والمواطن، وليست مؤسسات ونظم سياسية تولي الشعب على الحاكم ولا تقوم على أساس علاقات شخصية تهيمن على قواعد الحكم والدولة.

وهذه السمة أكثر ما برزت عند جمهور حزب الله؛ فهو بشخص أمينه العام يحل محل الدولة اللبنانية بمؤسساتها عند أتباعه؛ ولقد عمل حزب الله على تعميق هذا الولاء بشتى الوسائل قبيل فترة الانتخابات وخلالها. الأمر الآخر الذي خدم هذه الفئة كان شد عصبيتها وإعادتها إلى تراثها من الحرمان وأن عليها اختيار من يحميها ويدافع عنها، مع أنها هي التي انتقلت إلى خانة تهديد الآخرين.

يوصلنا هذا إلى أهم ما يعيق التطور الديمقراطي في لبنان:

  1. الاعتقاد بأن الضعف يكمن في الانفراد أو الاستفراد، وهو ما يدفع الجماعات للتكتل.
  2. فكرة أن القوة تكمن في الجماعة والتجمع والتكتل من دون أصوات خارجة عن الإجماع.
  3.  اللاهرمية في المجتمع التي لا تساعد على بناء المؤسسات.

وما يتركنا في هذه الدوامة التي خرجنا منها إبان رئاسة الراحل فؤاد شهاب في الستينيات، جهود حزب الله. ففيما يعمل على تقوية عصبية أتباعه يمعن في إضعاف الدولة والاعتداء على حقوقها. وكلما قويت عصبية القوم، وانتماءهم إلى الجماعة للدفاع عن الذات وللهيمنة على الآخرين، ضعفت الدولة؛ التي تغطي عجزها بمقولتي الاستقرار وخصوصية ولا غالب ولا مغلوب، دون التوصل إلى فرض سلطتها الحيادية على مختلف المجموعات الطائفية؛ بل جاءت نتائج الانتخابات لتقوية هذه المجموعات.

تحاول هذه العصبيات والمجموعات أن تحافظ على استقلاليتها وحرية تحركها، ذلك أن جوهر وجودها يكمن في التحرك الحر. إذ لو انتفت هذه الاستقلالية الذاتية لما تمكنت العصبيات من ممارسة سياسة عقد علاقات الولاء السياسي وغيرها. يغلب عندها مفهوما للحرية يبتعد عن معناها الفلسفي كحرية الفكر والإبداع والتعبير عن الذات؛ الحر هنا هو غير المسَيطر عليه، تماما كما أن الغني هو المستغني عن الآخرين. لذا تتخذ معنى التحرر من السيطرة حتى ولو كان من قبل الدولة المركزية.

طبعت سمتان الانتخابات اللبنانية: سمة العصبية الخلدونية، وسمة الذهنية العربية الغالبة

​​لدى حزب الله استراتيجيته السياسية للهيمنة على لبنان، يساعدنا على فهمها ما نقله فريدريك معتوق، في كتابه صراع العصبيات عن ميشال سورا، الذي خطف وقتل في لبنان ويقال بسبب ما كتبه عن سورية في كتابه "الدولة البربرية". استنتج سورا في بحثه عن شباب باب التبانة (أحد الأحياء الفقيرة في مدينة طرابلس، شمال لبنان) في مطلع الحرب الأهلية، أن الصراع بين العصبيات لا يتضمن "فكرة نهاية الحرب"، الذي يعني زوال العصبيتين منطقيا، بل فقط ترهيب الخصم وترك النزاع مفتوحا. فالهدف هو الإبقاء على النزاع، كي لا تضعف العصبية ضمن مفهوم ميزان القوى بما أن المسألة ترتبط بالصراع على السلطة.

اقرأ للكاتبة أيضا: عالمان منفصلان، عالم يتوحد وشرق أوسط يتشرذم

أيضا لأنه كان يمكن قديما القضاء على العصبية بالقضاء على رأسها وصاحب القرار فيها، لكن الصراع الدائم جعل الأمر مستحيلا لأن العصبية صارت معشعشة في عمق وعي الأفراد المدافعين عنها. وهو ما يجعل انكسار العدو العسكري غير مفيد على المدى الطويل لأنه سيولد نقمة وحقدا مذهبيا أكبر.

من هنا الخطاب المزدوج الذي نجده في صميم العصبية المذهبية التي بقيت تناور ثلاثين سنة في ألمانيا (حقبة وستفاليا) حتى وصلت إلى تثبيت الحدود التي ترضي الطرفين، دون أن ينكسر أحدهما أمام الآخر.

وكم هو غريب هذا التماهي بين ثنائية الخطاب وثنائية الحدود في لاوعي العصبيات المذهبية!

ونحن العالقون في خضم هذا الوضع في ظل الصراع المشتد على منطقة الشرق الأوسط والجانب العربي فيها، ننتظر أمرا كان مفعولا، كي نخرج من هذه الدوامة!

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.