من تظاهرات الأردنيين
من تظاهرات الأردنيين

بقلم جويس كرم/

سيل من المؤامرات "وصفقات القرن" حول تحالفات وهمية باتت التفسير الوحيد للبعض في قراءة الحراك الشعبي الذي يشهده الأردن منذ الأسبوع الماضي. وكأن ألف باء الحياة السياسية والأحوال المعيشية لا وجود لها في قاموس هؤلاء، وأي حدث يتم النظر إليه من باب التدخل الخارجي والمخططات السرية وتجاهل قدرة المواطن والمواطنة على صنع التغيير.

أسبوع من التظاهرات السلمية في الأردن. تجمعات ليلية أمام رئاسة مجلس الوزراء في الدوار الرابع، كسرت بسلميتها وتعدديتها وفعاليتها لعنة الربيع العربي الذي بدأ بشرارة تفاؤل قبل أن يتحول إلى تسلط وتفتت وحروب داخلية من ليبيا إلى مصر إلى اليمن وسورية. ويبدو أن شبح هذه التجارب الحاضر الغائب في تظاهرات عمان، يقابله إدراك عميق من المتظاهرين والقيادة الأردنية حول حجم التحدي وأفق التحرك ومطالبه في هذا المفترق.

التظاهرات في الأردن ليست ردة فعل أو نتاج أي مؤامرة خارجية، ومن يدعي ذلك يجهل نواة الشعب الأردني وثقته بنفسه

​​فالتظاهرات في الأردن ليست نتيجة ولا اعتراضا على "صفقة القرن" غير الموجودة في هذا القرن أصلا، ولا تعدو أن تكون أكثر من تهويلات ديماغوجية زائفة من إعلام زائف يتنشق المؤامرات. فالوضع الاقتصادي، العجز المادي، أرقام البطالة والقانون الضريبي والخوف على مستقبل الأردن هو ما يحرك شباب وشابات عمان وجرش وإربد، وليس أوهام المطبلين في العواصم القريبة. ولهذا السبب بالذات، ولوعي المواطن الأردني وقيادته، لا يمضي الأردن باتجاه ومسار دول الربيع العربي رغم الغيوم الاقتصادية المحيطة به.

اقرأ للكاتبة أيضا: عام على أزمة قطر.. لا تنتظروا الحل

أولا، وإذا نظرنا إلى طريقة تعاطي القيادة الأردنية مع التظاهرات الأكبر منذ 2011، نرى أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وولي العهد الحسين يحتضنان الحراك ولا يتعاملان معه بشكل نافر وخائف كما كان الحال مع حسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد. فالرئيس السوري رد في درعا بإرسال جثث الأطفال إلى ذويهم بعد تقليم أظافرهم وتعذيبهم في السجون، بينما عبر عبد الله الثاني عن فخره بأبناء وبنات الأردن وحقهم بالتظاهر، وأقر بمشاكل الفقر والفساد واللاجئين والبطالة. أما ولي العهد فزار نقطة التجمع وشكر رجال الأمن.

القيادة الأردنية استبقت أيضا عجلة التغيير بإقالة الحكومة وتعيين عمر الرزاز رئيسا للوزراء، وهو من الشخصيات الأكثر ضلوعا بالملف الاقتصادي، وصاحب شخصية متواضعة ومتمدنة ومحببة من الأردنيين. فالعاهل الأردني يدرك أن الحراك الشعبي ليس موجها ضده بشكل خاص، بل نقمة شعبية بعد ثمانية أعوام على ظروف اقتصادية واقليمية صعبة تقوض النمو في عمان.

عبر عبد الله الثاني عن فخره بأبناء وبنات الأردن وحقهم بالتظاهر، وأقر بمشاكل الفقر والفساد واللاجئين والبطالة

​​أما المتظاهرون، وهم من شتى أطياف المجتمع الأردني وألوانه الثقافية والدينية والسياسية، فهم وبسلميتهم ووعيهم لأهمية وخطورة المرحلة في الوقت نفسه، يقدمون نموذجا في الاحتجاج المدني وقيادة تحرك لمطالب محقة ومتزنة ترتبط بالقانون الضريبي والأحوال المعيشية و"تغيير النهج" الحاكم. كما يبرز عنصر التآخي بين المتظاهرين ورجال الأمن وقد انتشرت بعض الصور لتبادلهم الشاي أو القطايف، وهو ما يميز هذا الحراك.

اقرأ للكاتبة أيضا: إيران بعد خطاب بومبيو: عقوبات وغليان إقليمي

فما هو سقف هذا التحرك والى أين سيقود الأردن؟ الوعي المتبادل حتى الآن بين القيادة والمتظاهرين يعطي الانطباع بأن الإصلاح الاقتصادي في الأردن سيكون العنوان الأساسي للمرحلة المقبلة، بهدف تحسين الواقع المعيشي، زيادة الدعم الدولي والإقليمي في ملف اللاجئين والتعاطي مع تحديات ضخمة في المدى الأبعد مثل العجز المادي والفساد. سيكون على الأردن والقيادة الهاشمية أيضا التعاطي مع الصلاحيات الدستورية للحكومة ومجلس النواب، بشكل يمكن هؤلاء من صنع التغيير. هذه الإصلاحات كان لها دور إيجابي في المغرب عام 2011 وهو ما عكس نضجا من القيادة المغربية ووفر عليها الانزلاق بمتاهات الفوضى يومها.

التظاهرات في الأردن ليست ردة فعل أو نتاج أي مؤامرة خارجية، ومن يدعي ذلك يجهل نواة الشعب الأردني وثقته بنفسه وقدرته على تغيير العجلة الاقتصادية والسكة السياسية من دون المجازفة باستقراره وأمنه، ومن دون الارتهان إلى "محاور القرن" وأوهامهم الخارجية.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.