الاحتجاجات في الأردن لا علاقة لها بأي مؤامرة أو صفقة أجنبية
الاحتجاجات في الأردن لا علاقة لها بأي مؤامرة أو صفقة أجنبية

بقلم نيرڤانا محمود/

في تموز عام 2017، كتب عبد الحميد المجالي في جريدة الدستور الأردنية، أن العرب أكثر شعوب العالم إيمانا بنظرية المؤامرة. وأوضح كيف أن كثيرين في العالم العربي ينظرون إلى الأحداث على أنها مؤامرات يجري التخطيط لها في غرف مظلمة في الغرب. وبعد عام تقريبا، تفجرت الاحتجاجات في الأردن ضد تدابير التقشف المدعومة من صندوق النقد الدولي. ومثل جميع الأزمات في العالم العربي، استحضرت الاحتجاجات في الأردن نظرية مؤامرة أخرى ـ "صفقة القرن". ولكن بخلاف المؤامرات السابقة، لا تلوم النسخة الجديدة من نظرية المؤامرة الغرب فقط، بل بعض الدول العربية، وبصورة رئيسية السعودية وحلفاءها. ولهذا السبب بالتحديد هي خطيرة ومدمرة.

بدأ تداول مصطلح "صفقة القرن" منذ أكثر من عام، عندما أعرب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن رغبته في تحقيق حل شامل للنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وعززت علاقة إدارة ترامب الجيدة مع الحكومة الإسرائيلية والدول العربية الرئيسية الآمال بإنعاش مبادرة السلام العربية التي أعلنت عام 2002، والتي تنص على الاعتراف بإسرائيل في مقابل دولة فلسطينية حدودها تلك التي وجدت قبل حرب عام 1967.

أثار اهتمام ترامب جدلا صاخبا حول ما إذا كانت هذه الصفقة معقولة، حتى في غياب أي تفاصيل حول مبادرة ترامب، خصوصا عندما التقى بالرئيس الفلسطيني في بيت لحم في أيار/مايو 2017.

يحق للناس أن يختلفوا مع التوجه البراغماتي، لكن ليسل هم الحق في تصوير البراغماتية على أنها الخيانة

​​ولم يكن على الرئيس الأميركي أن يقول أي شيء؛ إذ قرر كثير من العرب أن يستفيضوا في الحديث عن نسختهم من "صفقة القرن". وخلال الـ 12 شهرا الماضية، سمعت سيناريوهات مدوية حول هذه الصفقة الغامضة، على كل من وسائل الإعلام العامة أو وسائل التواصل الاجتماعي. لقد استطرد العرب من مواطنين عاديين وناشطين ثوريين إلى محللين وصحافيين، في تفاصيل هذه "الصفقة المريبة". تم تداول سيناريوهات عديده وغريبة مثل أن الأردن هو فلسطين الجديدة، أو أن سيناء امتداد لغزة.

اقرأ للكاتبة أيضا: الاتفاق النووي الإيراني وتمكين الإسلاموية

وجاءت موجة الاحتجاجات الأخيرة في الأردن بمثابة هدية لأصحاب نظرية المؤامرة المزعومة هذه. وتحولت تغريدة تقول "إنهم يريدون تدمير الأردن، لأنه رفض الالتزام بصفقة القرن" إلى تعويذة مرادفة تقريبا لأخبار الاحتجاجات في شوارع المدن الأردنية. إلا إن ما كان ثابتا في جميع السيناريوهات المختلفة هو الدور الذي نسب لبعض الدول العربية، وخاصة السعودية والإمارات ومصر في مثل هذه المؤامرات، وتصوير تلك الدول كخائنة للقضية الفلسطينية.

إن الأعداء التقليديين، مثل أميركا وإسرائيل، وجميع الأسباب الموجبة التي شرحها المجالي بدقة، ليست التفسيرات الوحيدة. بعد عقود من ترسيخ نظرية المؤامرة في الوعي العربي، تحولت المخططات الخيالية إلى أسلحة تستخدم لشيطنة بعض الدول العربية.

مرحبا بكم في المرحلة الثانية من نظرية المؤامرة، التي يعتبر العرب فيها هم الخونة الجدد.

وعلى عكس نظريات المؤامرات الأخرى، فإن "مؤامرة صفقة القرن" تكتسب قوة وجاذبية بين كثيرين، ليس فقط بسبب عدم الثقة الممتدة لقرن من الزمان، في الدوافع الغربية، أو العلاقات الدافئة لإدارة ترامب مع إسرائيل، بل لأنها تخدم مصالح دول وتحالفات معينة في المنطقة.

ساهم حدثان بشكل غير مباشر في نشر الشائعات عن مؤامرة "صفقة القرن"؛ أزمة قطر وانسحاب الولايات المتحدة من الصفقة الإيرانية. في آذار/مارس 2002، لم يوجه أي نقد جدي عندما كشف الملك السعودي الراحل عبدالله النقاب عن مبادرة السلام العربية. لكن ذلك كان قبل الربيع العربي، وكانت السعودية محصنة تقريبا من النقد.

ولكن في فترة ما بعد الربيع العربي، أعيد رسم الخارطة السياسية للمنطقة. وظهرت ثلاثة معسكرات؛ اثنان من الإسلامويين: المعسكر الإيراني ومعسكر قطر والإخوان المسلمين، وثالث مكون من السعودية وحلفائها طلق الإسلاموية.

على عكس نظريات المؤامرات الأخرى، فإن "مؤامرة صفقة القرن" تكتسب قوة وجاذبية بين كثيرين

​​وكما تغيرت الخريطة تغيرت أدوات الصراع. أصبح ما يسمى بـ"صفقة القرن" أداة ملائمة في أيدي أولئك الذين أضحت مهمتهم تشويه سمعة المعسكر السعودي. في المخطط المزعوم، تم تصوير المنطقة العازلة في مصر في شمال سيناء، لا كتدبير لمكافحة الإرهاب كما أكدت مصر، بل كتحضير لإعادة توطين الفلسطينيين في المستقبل. كما يتم تصوير الضعف الاقتصادي الحالي في الأردن على أنه تكتيك متعمد، لاسيما من قبل السعودية والإمارات، بهدف مساعدة إسرائيل على إنشاء دولة فلسطين في الأردن، بدلا من الضفة الغربية.

اقرأ للكاتبة أيضا: أزمة قطر: لماذا تشكل الإمارات هاجسا للقطريين

هنا في موقع الحرة، أوضحت جويس كرم الواقع في الأردن، وكيف أن الاحتجاجات لا علاقة لها بأي مؤامرة أو صفقة أجنبية. وسبق لي أنا أيضا أن دحضت، في مقال سابق، أسطورة مقترح إنشاء دولة فلسطينية في سيناء.

ولكن، كيف للمنطق أن ينتصر حين يستخدم الدين والقومية لخدمة معسكرات معينة في المنطقة؟

يستغل مروجو صفقة القرن الجدل بين موقفين متعارضين في المنطقة: الأول موقف عقائدي يشير إلى أن الفلسطينيين سيكونون الخاسرين في نهاية المطاف إن عقدوا أي اتفاق سلام مع إسرائيل. والثاني موقف براغماتي، مدفوع بالخوف من أن الوضع الراهن سيضر في نهاية المطاف بالقضية الفلسطينية، وأن هناك حاجة إلى صفقة مع إسرائيل.

يحق للناس أن يختلفوا مع التوجه البراغماتي، لكن ليسل هم الحق في تصوير البراغماتية على أنها الخيانة.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.