أردوغان
أردوغان

بقلم نيرڤانا محمود/

انت القلب الكبير. أنت نعمه وإحسان

بحكمتك تختال علينا وانت مرآة حضارتنا

أتذكر هذه السطور من المسرحية المصرية "سيدتي الجميلة" كلما قرأت تعليقات محبي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فهو بالنسبة لهم نبي هذا العصر والقائد الفريد والأب الطيب. تراهم يدعون له بالنصر، يرونه في أحلامهم، ويحتفلون بنجاحاته.

في البداية، كان الافتتان بتركيا مفهوما، خاصة في ذروة الربيع العربي، عندما كانت تركيا كدولة مسلمة حديثة بقيادة أردوغانية كاريزماتية ناجحة، تبدو وكأنها "النموذج المثالي" للدولة المسلمة الحديثة.

يرى الإسلاميون المتشددون أن مغامرات أردوغان السورية نواة لخلافة إسلامية مستقبلية

​​كثير من العرب، في ذلك الحين، وبغض النظر عن أيديولوجيتهم وانتمائهم السياسي، انبهروا بالإنجازات السياسية والاقتصادية لأردوغان. قل هذا الانبهار تدريجيا وخصوصا بين معارضي الحركات الإسلاموية نتيجة لتأييد الزعيم التركي أردوغان المطلق للإخوان المسلمين وجميع حركات الإسلام السياسي وتجاهله لديناميكيات الأوضاع السياسية في العديد من الدول العربية.

أما أتباع الإسلام السياسي فقد ازدادوا حبا وإعجابا بأردوغان، خصوصا بعد أن حول تركيا إلى قبلة لهم لممارسة أنشطتهم السياسية والاجتماعية، ولهذا فقد أصبحوا أكثر دوغمائية وإخلاصا للرئيس أردوغان على الرغم من انجراف زعيمهم المحبوب نحو الاستبداد.

اقرأ للكاتبة أيضا: نكسة مصر الكروية

منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، تم سجن مئات الآلاف من الأشخاص وترويعهم وإقالتهم ووصفهم بأنهم خونة. كما نالت تركيا الآن سمعة لا تحسد عليها كأسوأ سجان للصحفيين في العالم. حتى القضاء التركي أصبح مسيسا، كما قال الزعيم الكردي صلاح الدين ديميرطاش: "إن المحاكمة العادلة مستحيلة في تركيا الآن". ومن ناحية أخرى، في العام 2017، وصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" التغييرات الدستورية في تركيا تجاه الرئاسة التنفيذية بأنها "تهديد كبير لحقوق الإنسان وسيادة القانون والمستقبل الديموقراطي للبلاد".

علاوة على ذلك، فإن سياسة أردوغان الخارجية في العالم العربي، وخاصة في سورية لم تكن ناجحة، فلقد خفف أردوغان منهجه ضد نظام الأسد، ووقع صفقة حلب مع الروس التي مهدت الطريق لنظام الأسد لاستعادة السيطرة على المدينة. كما قرر الرئيس أردوغان غزو مدينة عفرين السورية، حيث قامت جماعات مسلحة تعمل مع القوات التركية بنهب وتدمير الممتلكات، وقامت بتنظيم تحول ديموغرافي يهدف إلى تغيير التوازن بين سكان عفرين من أغلبية كردية إلى أغلبية من العرب. وعلى جبهة أخرى، بدأت تركيا في إغلاق سدها في جزيرة إليسو في وقت سابق للموعد المحدد، مما يهدد العراق بنقص المياه.

منطقيا، كل هذه السياسات كافية لإقناع جماهير أردوغان العربية بأنه ليس الزعيم المثالي الذي يحلمون به. لكن مؤيدي أردوغان العرب لن يغيروا مواقفهم بسهولة. وهؤلاء المؤيدون نوعان:

حب الإسلامويين العرب لأردوغان بالرغم من تفرده بالحكم يثبت أنهم لم يكونوا ديموقراطيين على الإطلاق

​الأول، الإسلاميون المتشددون. ففي الكويت على سبيل المثال، احتفل البعض بانتصار أردوغان في الانتخابات الأخيرة بكعكة عملاقة مزينة ليس فقط بالعلم التركي بل بعلم قبيلة كاي العثمانية الأصلية. هذه المجموعة تسعى إلى خلافة إسلامية، بغض النظر عن قيمها الديموقراطية، وترى أن أردوغان هو القائد الوحيد المتاح حاليا والذي يملك القوة والنية والقدرة على تحويل المنطقة إلى دولة إسلامية كبرى.

تعتقد هذه المجموعة أن الخليفة السيئ أفضل من أي زعيم غير إسلامي، ولذلك فإن أسلوب أردوغان شبه الاستبدادي في الحكم لا يزعجها، وهي على أتم الاستعداد لتكرار ما يدعيه أردوغان بأن كل خصومه خونة وأن كل الأكراد إرهابيون. وترى هذه المجموعة من المؤيدين أن مغامرات أردوغان السورية نواة لخلافة إسلامية مستقبلية.

اقرأ للكاتبة أيضا: خرافة 'صفقة القرن'

أما النوع الثاني من مؤيدي أردوغان، فهم من يطلقون على أنفسهم لقب "الثوريين". يشعر هذا الفريق بالحاجة إلى أن ينظر العالم إليه على أنه مؤيد للديموقراطية. ولذلك فإن هذا الفريق يبذل جهدا خارقا لتصوير أردوغان على أنه حاكم ديموقراطي، وذلك عن طريق طمس الاختلافات بين الديموقراطية والحكم الاستبدادي القادم عبر صناديق الاقتراع كما يحدث الآن في تركيا. كما يصر هذا الفريق على أن حكم أردوغان أفضل بكثير من الأنظمة العربية. مثل هذا الادعاء ربما كان مقنعا قبل بضع سنوات، ولكن الآن، بعد الرئاسة التنفيذية الجديدة لأردوغان التي يسيطر فيها على كل دعامة للدولة التركية، وبعد أن عين زوج ابنته وزيرا للاقتصاد وعضوا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة التركية، فإنه ادعاء هزلي.

حب الإسلامويين العرب لأردوغان بالرغم من تفرده بالحكم يثبت أنهم، بغض النظر عن ظلالهم وخلافاتهم، لم يكونوا ديموقراطيين على الإطلاق. إن علاقتهم مع أردوغان ترتكز على الاستغلال المتبادل. فبينما يحتاج أردوغان إلى أن يثبت أن له شعبية جارفة في العالم العربي، يحتاج أتباعه ومحبوه من العرب إلى نجاحه ليتخذوه دليلا على سلامة مواقفهم السياسية.

ولهذا سيستمرون في نسج الأساطير عن " مولانا ولي النعم".

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.