ما تبقى من درعا
ما تبقى من درعا

بقلم نيرڤانا محمود/

دعونا نكون صرحاء ونعترف، انتهت الثورة السورية وانتصر الأسد وحلفاؤه الإيرانيون.

شاهدنا كيف استعاد الأسد حلب والغوطة وحتى درعا، مسقط رأس احتجاجات عام 2011. الآن، يستعد النظام السوري لمعركه إدلب، الإقليم المتبقي تحت سيطرة فصائل المعارضة.

لم يستعد الأسد هذه المناطق من المحتجين السلميين الذين هتفوا ضد نظامه بل من جماعات عده تملكت فيها الإسلاموية الراديكالية ولعبت دورا محوريا في تشويه الثورة وهزيمة أبنائها.

رويدا رويدا، تعمل إيران على تحويل سورية إلى معسكر تابع لها سياسيا واقتصاديا ودينيا

​​قبل بضع سنوات، حضرت ندوة حول الصراع في سورية واستمعت إلى متحدثين يناقشون حتمية سقوط نظام الأسد ويتجادلون حول مستقبل سورية بعد رحيله. لم أقتنع بكلامهم وأعربت عن تخوفي من أن نظام الأسد وحليفته إيران لن يهزما بسهوله وأن معسكرهم أكثر اتحادا وتماسكا، ولكني أدركت أن معظم الحاضرين لا يشاركونني الرأي.

مرت السنوات، وانتصر الأسد وإيران. يعزو معظم النقاد والمراقبون هذا الفوز إلى التدخل الروسي الشرس في الصراع. بالتأكيد، إن هذا التدخل عامل مهم، ولكن يجب أن نعترف بأن نجاح إيران في إدارة الصراع ضد المعارضة السورية هو العامل الأساسي وراء انتصار نظام الأسد.

اقرأ للكاتبة أيضا: لماذا يعشق بعض العرب أردوغان بالرغم من تفرده بالحكم؟

انتصر الطرف الإيراني في هذا الصراع لأسباب عدة من المهم دراستها وفهم أبعادها:

أولا؛ تجميد الأيدولوجية الإسلاموية:

لقد أدرك النظام الإيراني منذ الأيام الأولى للثورة السورية أنه لا يملك أي فرصة للنصر بدون التخلي عن العناصر المتشددة في أيديولوجيته وتبني نهج أكثر براغماتية. لجأ الملالي إلى العديد من التكتيكات لتصوير أنفسهم بأنهم "الجانب المتسامح" الذي يحارب "التطرف السني".

حرص النظام الإيراني على عدم الدعوة إلى حكم الشريعة في سورية وسمح للأسد بالحفاظ على قناع نظامه العلماني.

فبينما تصر السلطات الإيرانية على فرض الحجاب على النساء داخل إيران، لم ترتد زوجه الأسد الأنيقة الخمار الأسود ولم تزر إيران، وفي الغالب كي لا يفرض عليها ارتداء الحجاب. وظل تليفزيون الأسد وجيشه الإلكتروني مليئا بالنساء غير المحجبات اللواتي يدعين بأنهن مؤيدات للحرية بينما لم نسمع أي منهن تدافع عن الشابات الإيرانيات اللاتي حاولن خلع الحجاب.

أما في معسكر المعارضة، فظهرت في سورية أمثلة صارخة لضيق الأفق وحماقة الجماعات الإسلاموية السنية، بالإضافة إلى تخبط المعارضة وانتشار عدد لا يحصى من الفصائل المعارضة التي "أكلت الثورة" كما وصف الكاتب حسين عبد الحسين الأمر.

وبالرغم من الظروف المعيشية القاسية تحت الحصار والقصف الجوي، سارعت الجماعات المعارضة إلى فرض أحكام دينية صارمة على السكان الخاضعين لسيطرتها. وبدا أن مؤيدي تنظيمي "القاعدة" و"داعش" لم يتفقا إلا على إذلال النساء وتقييد حرياتهن.

ثانيا؛ احتكار الجهاد الشيعي:

وصف الباحث أيمن جواد التميمي كيف أنشأ الحرس الثوري الإيراني مشروع قوات الدفاع المحلية في سورية، وكيف أدخلت هذه القوات في سجلات الجيش السوري بينما ينتسب أفرادها في الوقت نفسه إلى الحرس الثوري الإيراني. وأوضح الباحث أن من الصعب فصل الميليشيات الإيرانية عن نظام الأسد بعد أن أصبحت جزءا لا يتجزأ من النظام. ربما لا يزال هذا الاندماج في مراحله الأولى، لكنه يعكس كيف نجحت إيران في فرض احتكار صارم على الجهاد الشيعي. أيقن النظام الإيراني أن تدويل الجهاد كما حصل في المعسكر السني المعارض سيؤدي حتما إلى الفرقة والاختلاف والتخبط ومن ثم الهزيمة.

سورية مثال صارخ لصراع أيديولوجي بين نوعين من الإسلاموية السياسية

​​لذلك حرص الملالي على وحده الصف بين جميع ميليشياتهم حتى لو كانت تحت قيادات مختلفة كحزب الله اللبناني مثلا. الجميع يخدم ولاية الفقيه، بينما تتخبط المعارضة بين البغدادي والجولاني والسلطان العثماني.

كل هذه البراغماتية لا تعني أن إيران تخلت عن أيديولوجيتها. بالعكس فقد بدأت الآن مرحلة الانتشار الاجتماعي. إذ بالإضافة إلى القواعد العسكرية، بدأ النظام الإيراني في افتتاح سلسلة من المشاريع منها المدارس والمستشفيات، مستغلا تهجير العديد من السكان السنة وكره البقية للجماعات الراديكالية. رويدا رويدا، تعمل إيران على تحويل سورية إلى معسكر تابع لها سياسيا واقتصاديا ودينيا.

اقرأ للكاتبة أيضا: نكسة مصر الكروية

سورية مثال صارخ لصراع أيديولوجي بين نوعين من الإسلاموية السياسية، أحدها شيعي إيراني الهوى انتشر كالسرطان المزمن، والآخر سني راديكالي أهوج قضي على الثورة بسمه القاتل.

لا يسعني كلما كتبت عن سورية سوى أن أتذكر قول الخليفة عمر ابن الخطاب يوم مات خالد ابن الوليد في بيته في سورية: "على مثل خالد تبكي البواكي". والآن بعد أن وأد الإسلام في سورية واستبداله بأيدولوجيات دموية قذرة أقول "على مثل سورية تبكي البواكي".

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.