الرئيس التركي مستقبلا الأمير القطري مؤخرا
الرئيس التركي مستقبلا الأمير القطري مؤخرا

بقلم نيرڤانا محمود/

لو كتبت قبل شهور قليلة أن تركيا على عتبة أزمه اقتصادية كبيرة لكذبني العديد من المتابعين العرب؛ وإن أضفت أن قطر قد تضطر إلى مساعده حليفها التركي لاتهمني البعض بالهلوسة.

لقد نجحت ماكينة الإعلام التركية في إقناع العديد في عالمنا العربي بأن الاقتصاد التركي قوي وثابت. ولكن ما لا يعرفه البعض، أن الاقتصاد التركي تغير عبر السنوات الماضية، وأصبح مختلفا تماما عن الصورة الوردية التي استقرت في أذهان محبي أردوغان.

انقلب الكفيل التركي إلى رضيع يعتمد اعتمادا شبه كليا على المال القطري

​​هوس الرئيس التركي بالمشاريع المعمارية والاستهلاكية، التي مول معظمها بقروض ضخمة، أدى إلى تضخم الدين العام لتركيا إلى أكثر من 350 مليون دولار. كما ارتفع التضخم في تركيا إلى أكثر من 15.9 في المئة.

كان يمكن لتركيا أن تحد من التدهور برفع سعر الفائدة، لكن الرئيس التركي رفض أن ينصت لخبراء الاقتصاد وأصر على التحكم في عمل البنك المركزي التركي وخصوصا بعد أن عين زوج ابنته وزيرا للاقتصاد.

كل هذا أدى إلى تزايد مخاوف المستثمرين وهبوط العملة التركية.

تزامنت مشاكل تركيا الاقتصادية بمشاكل قيادتها السياسية، فلقد اتهمت الحكومة التركية قسا أميركيا بالتجسس والتعامل مع جماعه غولن المحظورة في تركيا. رفضت تركيا طلب الرئيس الأميركي الإفراج عن القس مما جعل الرئيس ترامب يستشيط غضبا ويفرض عقوبات اقتصادية على تركيا. هذه العقوبات أدت إلى زيادة التدهور في الليرة التركية وفقدانها لنسبة كبيرة من قيمتها.

اقرأ للكاتبة أيضا: هكذا انتصرت إيران في سورية!

وكعادة كل الإسلاميين، قام الرئيس التركي بخلط الأوراق، منكرا مشاكل بلاده الاقتصادية، وأعلن أن تركيا تواجه حربا اقتصادية. لم يكتف الرئيس التركي بهذا فقط بل ساوى بين اقتصاد بلاده والآذان مدعيا أن الهجوم على الاقتصاد التركي كالهجوم على الآذان، وكأن الآذان لا يرفع إلا في تركيا ولا يوجد مسلمون إلا أتباعه.

اعتقد بعض المراقبين أن قطر ستنأى بنفسها بعيدا عن التقلبات الاقتصادية التركية والحرب بين رئيسها والرئيس الأميركي ترامب.

ولكن قطر قررت عكس ذلك، فبعد زيارة لأميرها لأنقرة، أعلنت قطر نيتها دعم تركيا بخمسة عشر مليار دولار.

القرار القطري ليس مستغربا على الاطلاق. فالقيادة القطرية في الحقيقة هي جزء لا يتجزأ من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يراهن على الرئيس التركي ونظامه كنصير وقائد.

منذ زمن بعيد، اختارت الدوحة إتباع الأيدولوجية الإسلاموية على حساب العقلانية، وأصبح من الصعب عليها التراجع الآن حتى لو كان الثمن مواجهة محتمله مع الرئيس الأميركي ترامب الحليف الغربي الأكبر للنظام القطري.

ولكن، بالرغم من أن القرار القطري كان متوقعا، فهذا لا يعني أنه قرار صائب وذلك لسبيبين رئيسيين:

أولا قطر ما زالت تحتاج الولايات المتحدة:

منذ بداية الأزمة القطرية الخليجية في العام الماضي، عولت القيادة في الدوحة على الولايات المتحدة لكي تكون الوسيط لحل الأزمة. جندت الدوحة عشرات الأقلام للدفاع عن نظامها في واشنطن وتصويره كحليف مطيع للولايات المتحدة.

جاء الخلاف التركي الأميركي ليكسر هذه الصورة الوديعة لقطر.

قد تسكت القيادة الأميركية مؤقتا عن هذا التلاعب القطري، ولكن الولايات المتحدة تستطيع أن تخنق قطر، ليس فقط سياسيا ولكن أيضا اقتصاديا، إن أرادت. فالبنوك القطرية في وضع هش منذ بداية الأزمة الخليجية إذ اضطر البنك المركزي القطري لضخ 20 مليار دولار في البنوك المحلية منذ بداية الأزمة، كما أن قطر تحتاج إلى المزيد من الأموال لتغطية تكاليف كأس العالم 2022.

ثانيا، الاستثمار في تركيا مقامرة لا تحمد عقباها.

قد تبدو المليارات القطرية حلا سحريا لأزمة الليرة التركية، ولكنها في الواقع ليست إلا مقامرة بأموال الشعب القطري.

اختارت الدوحة إتباع الأيدولوجية الإسلاموية على حساب العقلانية، وأصبح من الصعب عليها التراجع الآن

​​ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها تركيا أزمه اقتصادية حادة. ففي عام 2001 واجهت الدولة التركية أزمة مشابهة ولكنها تغلبت عليها باتخاذ تدابير اقتصادية متزنة بمساعدة خبراء اقتصاديين مستقلين.

أما في الأزمة الحالية، فلقد فضل الرئيس التركي أهل الثقة على أهل الخبرة ورفض كل الاقتراحات المتزنة لإصلاح اقتصاده كرفع سعر الفائدة أو اللجوء إلى مساعدة صندوق النقد الدولي مما هز ثقة المستثمرين في اقتصاد بلاده وخفض التصنيف الائتماني التركي.

اقرأ للكاتبة أيضا: لماذا يعشق بعض العرب أردوغان بالرغم من تفرده بالحكم؟

حول أردوغان وأنصاره الاقتصاد التركي إلى جرة مثقوبة لا يمكن ملؤها.

حتى لو جمع كل الإسلاميين أموالهم وذهبهم وحولوه إلى ليرة تركية فلن تفلح جهودهم في إصلاح ما أفسدته الغطرسة والفساد.

قد يستغرب البعض الحديث عن الفساد في تركيا، لكن الفساد والمحسوبية والرشى استشرت في تركيا وخصوصا في عهد الرئيس أردوغان.

باختصار انقلب الكفيل التركي إلى رضيع يعتمد اعتمادا شبه كلي على المال القطري وأصبح الحضن التركي مليئا بأشواك ستدمي الأيدي القطرية لسنين عدة.

ــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.