استمع إلى المقال:
بقلم سناء العاجي/
وحدث أن رجلا ذهب للحج..
وحدث أن ذلك الرجل كان الكاتب العام (الأمين العام) لحزب يساري عتيد.
وحدث أن قامت القيامة ضده على أساس أنه "خان القضية" وأنه "غير متناسق مع مبادئه".
وحدث أن استفقنا مرة أخرى على كثير من العبث في النقاش العام.
فطالب الرفاق بإقالة أمينهم العام من مهامه، لأن حجه "يتنافى مع مبادئ الحزب ومواقفه". هكذا، بكل عبث التطرف المعاكس.
ثم اضطر الكاتب العام، بعد الضجة الكبيرة، إلى تقديم استقالته من مهامه داخل الحزب.
ونحن.. بقينا نتأمل كل هذا العبث وهذا الجنون، ونحن نستغفر الله في تطرف يحارب التطرف، بغباء أكثر تطرفا منه!
وكأن اليساري، هو بالضرورة ملحد.
وكأن المتدين لا يمكن بتاتا أن يكون يساريا.
يقينيات تخلط بين اليسارية والشيوعية والماركسية وجوز الهند وجبال الهيمالايا وسم الفئران..
لكن الأخطر، أنها يقينيات لا تقبل حتى بالحق في الاختلاف.
يقينيات.. تناقض عمق فكرتها.
فأنت حين تكون ديموقراطيا، وتطمح لدولة مدنية لا يستعمل فيها الدين كأداة للحكم وتدبير الشأن العام؛
اقرأ للكاتبة أيضا: مكبر الصوت ليس ركنا من أركان الصلاة
وحين تطالب، بكل الصدق الممكن، بفصل الدين عن الشأن العام؛
وحين تطالب بحرية المعتقد…
فكل هذا يفترض، نظريا على الأقل، أنك لا تحارب الدين أو التدين الشخصي للأفراد. يفترض أنك تريد للقناعات الدينية أن تبقى في إطارها المشروع: الإطار الخاص.
وأنك تحترم الممارسات الدينية لكل فرد، ما دام لا يفرضها على الآخرين.
وأنك، كما تطالب بالحق في عدم الممارسة الدينية لمن يرغب في ذلك، فأنت أيضا تطالب بالحق في احترام الممارسات الدينية للأشخاص المتدينين، ما دامت ممارساتهم لا تأثر على حريات الآخرين ولا على تدبير الشأن العام.
لو كان علي بوطوالة، الكاتب العام لحزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي، وهو أحد أقطاب تحالف فيدرالية اليسار الديموقراطي، قد سافر للحج رفقة الوفد الرسمي الذي تبعثه الدولة المغربية بميزانية الحكومة، لكان في الأمر نقاش مشروع؛ بسبب تنافي ذلك فعليا مع مواقف الحزب.
لكن التنافي هنا ليس دينيا بل سياسيا، لأنه سيكون حينها قد سافر على نفقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وبالتالي على نفقة الدولة؛ في حين أنه ينتمي لحزب يطالب بحسن تدبير المال العام.
لكن، وبما أن بوطوالة ما فتئ يؤكد أنه سافر على نفقته الخاصة، فأي حديث عن "دعم النظام السعودي"، هو منتهى العبث والمبالغة، لأن الأصل في الحكاية كلها، أنه شخص متدين قرر أن يؤدي مناسك الحج رفقة زوجته، بماله الخاص. فقط.
قد يتفق كثير منا على كون النظام السعودي يستغل موسم الحج سياسيا واقتصاديا، لكن هذا لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يعطينا الحق، كأحزاب أو كأفراد، في منع شخص متدين من ممارسة شعيرة يعتبرها من أسس ممارساته الدينية.
أي نعم، فمن حق أي شخص أن يقرر لنفسه وبنفسه الامتناع عن الحج، حتى وهو متدين، بسبب هذا الخلط وهذا الاستغلال من طرف النظام السعودي لشعيرة دينية. كذلك، فمن حق المؤسسات السياسية والمدنية والإعلامية مناقشة هذا الموضوع. لكن بالمقابل، فليس من حق هذه المؤسسات أن تمنع متدينا من الصلاة أو الصوم أو الحج أو من أي ممارسة دينية أخرى، ما دام ذلك يتم في إطار شخصي.
اقرأ للكاتبة أيضا: أنت نسخة طبق الأصل مني
علينا أن ننتبه كثيرا لعدم خلط الدين بالسياسة، لكن على أساس أن نرفض الخلط في كل الاتجاهات. الدفاع عن دولة مدنية يتم فيها احترام حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن تدينهم أو عدمه، لا يجب أن يتحول لحرب ضد الدين أو التدين.
النظام العلماني والدولة المدنية يعنيان أن الحق في الممارسة الدينية يبقى مكفولا في إطار الممارسات الفردية. أما محاربة هذه الممارسات، فهي لا تدخل في إطار العلمانية، بل في إطار ممارسة فاشية جديدة، تحمل ظلما شعارات الديموقراطية.
ــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)