الثورة الصناعية وتطوير تقنياتها هي التي سمحت بنمو الصحافة
الثورة الصناعية وتطوير تقنياتها هي التي سمحت بنمو الصحافة

بقلم منى فياض/

يقصد بالصحافة المكتوبة، عموما، مجموع وسائل النشر والإعلام المكتوب، أي الصحف والمنشورات الدورية إضافة للمنظمات المهنية المرتبطة بها.

واقعتان خلف ولادة الصحافة؛ اختراع المطبعة ونشر الدوريات. لكن المنشورات الأولى التي ظهرت في البداية قبل الصحافة كما اعتدنا عليها، لم تكن أخبارا، بل كتيبات من أربع صفحات تصدر بالمناسبات، للتشهير والهجاء وأخبار القيل والقال والمذكرات، وإعلانات وتقاويم وأجندات.

منذ بداية الأنوار وحتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، ظل جزء من الأنباء منسوخا باليد، خصوصا الصحافة السرية. ولم يكن نشر مقالات تحليلية معمقة مع تعليقات ومواقف سياسية أو دينية معروفا؛ فقط ملخصات من كل نوع وأخبار آتية من أوروبا كأخبار القرصنة في المتوسط. فقبل اكتشاف الطاقة البخارية لم يكن انتقال الأخبار بسرعة ممكنا.

ما يميز الديموقراطية الأميركية أيضا معيار هيكلية الأدوار وفصل السلطات الذي يحفظ درجة الاستقلال الذاتي لوسائل الإعلام

​​عندما ظهرت الدوريات في نهاية القرن السادس عشر، كانت في معظمها شهرية وهدفت لإشباع عطش المعرفة والاطلاع لقراء تلك الحقبة.

أول دورية مطبوعة، صحيفة من أربع صفحات اسمها Relation صدرت في ستراسبورغ عام 1605 بالألمانية. لكن القرن التاسع عشر هو قرن انطلاق الصحافة المكتوبة بامتياز؛ فإذا كانت مطبعة غوتنبرغ (1438) سمحت بإطلاق النصوص المطبوعة في جميع أنحاء أوروبا، فإن الثورة الصناعية وتطوير تقنياتها هي التي سمحت بنمو الصحافة، خصوصا مع ظهور الطباعة الدوارة 1860. وهو ما حول الصحافة إلى صناعة حقيقية. فظهرت مهنة الصحافي والوكالات الصحافية. وازداد سحب الصحف من 36.000 عام 1800 في باريس إلى مليون عام 1870.

دور المطبعة: القراءة الصامتة وبروز الفرد

لا بد هنا من الإشارة إلى أن التغيير العميق الذي أحدثته الطباعة في جعل الكتاب في متناول القارئ العادي بعد أن كان حبيس الأديرة والمكتبات الخاصة، ساهم بانتشار الكتب وشيوع القراءة. الأمر الذي كان له التأثير العميق على البنية النفسية للإنسان الغربي. فتوسع الألفبائية سمح بانتشار القراءة الصامتة، التي تعتبر الشرط الضروري لظهور الحميمية الفردية ولإيجاد علاقة شخصية بالنص المكتوب فيتحرر الفرد من الوسائط القديمة المعتمدة على الشفهي والسمع. تخلص الفرد من رقابة الجماعة سمح له بالانعكاف على الذات وبالقراءات السرية والممنوعة واستطاع تكوين فكرته الخاصة عن العالم واكتساب معارف تجريبية وشخصية. تخلص الفرد بذلك من الآراء المسبقة والتأويل المعتاد والجماعي، ما ساعده على تشكيل ثقافة واسعة وثقة بالنفس وإحساسا بالنضج. وهذا ما ينمي الحس النقدي والاستقلالية.

اقرأ للكاتبة أيضا: بوادر القلق عند 'حزب الله'.. تمارين على أنسنة صورة نصرالله

لذلك، تعامل القراءة الصامتة كأداة تهديد تطاول نسيج الجماعة وجسدها وتهدده بالتمزق: ماذا تفعل وحدك في عزلتك مع كتاب؟ ألا تضجر؟ العزلة مخيفة ومثيرة للشك! ومصدر الخوف منها أنها منبع قوة هائلة! القراءة الصامتة تعد أحد شروط بروز الفرد.

ارتباط الصحافة بالفرد والرأي العام

كوّن بروز الفرد عاملا أساسيا في تشكّل الرأي العام الذي تعد حرية الصحافة أحد أهم شروط وجوده. فأحد عناصر بروز الديموقراطية في المجتمع الأميركي الخام يكمن في ظهور الحياة الخاصة للفرد المتميزة عن الحياة العامة. وكما أن للصحافة، برأي المؤرخ الفرنسي ألكسيس دو توكفيل، دورا مهما في المجتمع الأميركي الشاب في تصويب الديموقراطية، كذلك فإن تدفق الحياة السياسية في جميع أنحاء البلاد ينعش الصحافة، التي تقوم بوصل "السياسي" بالآراء الفردية. وذلك يعود إلى اللامركزية الإدارية التي جعلت المساواة متجذرة في العادات الفردية؛ فالفرد يمارس المواطنية والرقابة انطلاقا من أصغر بلدية إلى الدوائر الأعلى. يربط توكفيل بين هذه اللامركزية والحرية؛ لأن الحرية السياسية لا يمكن أن تعيش إلا عندما تمارس على المستوى المحلي. وقد يضعف العدد الكبير للصحف تأثيرها الفردي، لكنها بمجموعها تصبح القوة المؤثرة الأولى.

والمقصود بالمساواة هنا ليس المادية فقط بل الفكرية أيضا. الإنسان ـ الفرد في الديموقراطية يثق بحكمه الخاص. ولهذا يكتسب رأي الآخر أهمية أقل ويجد المنطق الديموقراطي نفسه مرتبطا بنفسه فقط. وتتموضع السلطة القوية في الرأي العام. ولا تفهم الديموقراطية حينها كنظام سياسي بل كحالة اجتماعية، في عادات السكان وتقاليدهم وفكرهم. وهذا هو دور الصحافة المحوري.

فالمشاركة السياسية المباشرة كما كانت معروفة في المجتمعات القديمة لم تعد هي معيار الحرية السياسية التي تحولت إلى حرية فردية. وجد توكفيل أن روح الصحافة في فرنسا هي النقاش بعنف أو بلاغة، لكن لمصالح الدولة العليا. بينما في أميركا تهاجم الصحافة السلطة بجرأة ودون هوادة لأنها مستقلة عن السلطات.

ما يميز الديموقراطية الأميركية أيضا معيار هيكلية الأدوار وفصل السلطات الذي يحفظ درجة الاستقلال الذاتي لوسائل الإعلام. ومن هنا تأتي قوة الصحافة في أميركا وتأثيرها في ممارسة الرقابة على السلطات السياسية.

لذا لا يأبه الصحافي للإغراءات ولا التهديدات طالما أن قانون دولته يحميه ويكفل له حرية نقل الحقائق والآراء كما هي لا كما يشتهيها البعض.

كلما انفتحت المجتمعات وتحولت نحو الديموقراطية الحقيقية، كلما احترمت حرية التعبير وتسهيل الاتصال، ما يمكّن من الضغط من أجل شفافية أكبر ومن أجل إلزام جميع المسؤولين باحترام إرادة الناخبين وإخضاعهم للمحاسبة الدائمة، وليس فقط عبر صناديق الاقتراعات التي تجرى دوريا وتخضع لحسابات المصالح.

الإنترنت هو أكثر من أداة جديدة للاتصال. إنه أداة تحول العالم وهذا التحول لم ينته بعد

​​في المقابل، لا يزال الإعلام العربي يفتقد إلى بديهيات الحرية ولاسيما في ما يتعلق بالشأن السياسي. فالصحافي مقيد في معظم الدول العربية لأن الصحافة تخضع لرقابة السلطات المحلية وطالما كانت أقرب إلى البروباغندا منها إلى الصحافة الحرة.

فبعد أن فطنت الأنظمة لأهمية الإعلام، كونه جزءا من صناعة القرار، في المؤسسة السياسية والعسكرية والاقتصادية؛ سوقت لأيديولوجيتها ولسياساتها وعمدت إلى اعتماد الإعلام الموجه والتشهير بخصومها. فوظيفة الإعلام الموجه حظر الحريات وتكميم الأفواه وغسل الأدمغة؛ وعند وجود صحف معدودة مسيطر عليها تزرع الأفكار نفسها في ذهن الملايين، فعلى الحرية السلام.

والهدف من كل ذلك خنق إمكانية التأثير في الرأي العام. فكلما ضاقت الفجوة بين الإعلام والرأي العام كلما عبر ذلك عن صدقية الإعلام والعكس صحيح. فالإعلام انعكاس للواقع السياسي، ولا يمكن أن تقدم وجبة صحية إذا كان مطبخك تعوزه المواد الجيدة والتجهيز الجيد. ولا زال محمد سعيد الصحاف وقبله أحمد سعيد حاضرين في ذاكرتنا.

اقرأ للكاتبة أيضا: قراءة في الثورات العربية: ليست ربيعا ولا شتاء، إنها مرحلة

لكن التقنيات الرقمية غيرت جذريا أنماط المشاركة وأشكال الحركة؛ فوسعت المجال العام، وخلخلت الهرميات المستقرة والبطريركية وفتحت ثغرات في جسم التجمعات ذات الامتيازات وشجعت التواصل وكونت كتلة رأي عام في المجتمعات ما فتح المجال للفاعل السياسي والمدني.. إنها حركية مجتمعية تنقلنا لا شك إلى زمن جديد. فسرعة تبادل الاتصال والمعلومات تجعل العالم أصغر فأصغر، ولهذا تأثيره الكبير على سلوكنا الشخصي والمهني.

تفتح الوسائط المجال العام أمام الجميع، دون تمييز، لإسماع أصواتهم وما تحمل من أفكار وتصورات. ووجهات نظر ظلت مهمشة، خصوصا في الفضاء التقليدي لأنظمة الاستبداد ومن هنا يشار إلى دورها في الثورات العربية. فعندما ينعدم وجود رأي عام فعلي يشارك في السلطة عبر الآليات الديموقراطية ويؤثر فيها، تصبح الثورات هي التي تعبر عن عدم الرضا.

الإنترنت هو أكثر من أداة جديدة للاتصال. إنه أداة تحول العالم وهذا التحول لم ينته بعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.