ناشطات في بيروت يرفعن صور سيدة معنفة وعارية مرفقة مع سؤال: ما الذي يصدمك أكثر؟
ناشطات في بيروت يرفعن صور سيدة معنفة وعارية مرفقة مع سؤال: ما الذي يصدمك أكثر؟

بقلم سناء العاجي/

مر عليّ زمن كنت أتبرأ فيه من لفظة "النسوية"، إذا ما إذا سألني أحدهم. وكأني أدفع عن نفسي تهمة. وكأني أتبرأ من علامة سلبية قد "تدنس" صورتي.

استغرقت مدة كي أفهم أن النسوية ليست تهمة وأنها انتماء يستحق أن نفخر به. فهمت أن "الفيمينست"، رجلا كان أو امرأة، لا يشبه تلك الصورة الكاريكاتورية التي يلصقها به البعض، كشخص هستيري يحارب الذكور. الفيمينست هو ببساطة شخص يؤمن بأنه من غير المعقول أن تعاني فئة معينة في المجتمع من حيف كبير يطالها، لمجرد انتمائها الجنسي.

نسوية لأني لا أفهم كيف يحرم مواطن من حقوقه، لمجرد أنه ولد أنثى

​​في إحدى مباريات التواصل في الجامعات الفرنسية، قدمت إحدى الطالبات في سلك الدكتوراه، تخصص علم اجتماع، مثالا جميلا عن بحثها في مجال العنصرية، حيث طلبت من الحاضرين أن يتخيلوا الوضع التالي: في القاعة التي يوجدون بها، سيتم اختيار الأشخاص الذين يتجاوز طولهم إلى 170 سنتيمتر، وسيقرر الباقون التمييز ضد هؤلاء لمجرد أن طولهم يتجاوز مقياسا معينا. يبدو هذا الأمر غريبا وظالما في نظر الجميع؟ هي بالتأكيد نفس الغرابة ونفس الظلم الذي يفترض أن نجده في التمييز ضد أشخاص لمجرد لون بشرتهم... وسأضيف هنا: أو جنسهم!

اقرأ للكاتبة أيضا: نِحْنَا والعنف جيران

التاريخ والتجارب الكونية المعاصرة تثبت أن الذكاء ليس مرتبطا بجنس معين ولا بلون بشرة معين، وأن كل أشكال الحيف مرتبطة بما يسمى في العلوم الإنسانية: البناء الاجتماعي (social construction). بمعنى أن تنشئة معينة تجعلنا نؤمن بأن الشخص الأبيض هو بالضرورة أسمى من الأسود، وأن الرجل بالضرورة أفضل من المرأة؛ وقس على ذلك في العرق والدين وغيرها من أشكال التمييز.

كيف لا تكون "فيمينيست" حين تتأمل هذه الأرقام، وفي عدة مجالات:

فيما يتعلق بالأمية مثلا، فالمجتمعات التي يصيبها هذا الداء (المغرب، تونس، مصر، السينغال، مالي، الهند وغيرها من الدول)، تصل نسب النساء ضحايا هذه الآفة في هذه الدول إلى نحو الضعف مقارنة مع بنس الرجال؛ وذلك سواء ارتفع المعدل الوطني أو انخفض.

في الأجور، تعاني النساء من حيف عالمي، حيث تتقاضى النساء أجرة أقل بحوالي 20 في المئة من الرجال مقابل نفس الكفاءات ونفس الشهادات، وهي نسب عالمية تختلف بدرجات قليلة بين بلد وآخر. في فرنسا مثلا، وحسب مرصد مختلف أشكال اللامساواة، فإن أجور النساء تقل بـ 18.6 في المئة مقارنة مع الرجال، بنفس الكفاءات ونفس الشهادات.

وفي العنف يحدث نفس الشيء، إذ تشكل ضحاياه من النساء الملايين عبر العالم: في مصر، وحسب إحصائيات 2015، فإن مليون ونصف المليون من النساء يتعرضن للعنف الأسري سنويا، بمعدل 4000 حالة يوميا. 70 في المئة من الحالات يكون العنف فيها من طرف الزوج و20 في المئة من طرف الأب.

في تونس، حسب دراسة لمركز الإحاطة والتوجيه الأسري، بين سنة 2003 و2008، تم تسجيل 3305 حالة عنف، 96 في المئة منها من طرف الزوج.

في لبنان، يتلقى الخط الساخن المخصص لشكاوى النساء ضحايا العنف، أكثر من 2600 بلاغ سنويا؛ في حين تلقت منظمة هيومن رايتس ووتش بلاغات عن مقتل 25 سيدة على أيدي أقاربهن في لبنان بين 2010 و2013.

في المغرب، تعتبر المندوبة السامية للتخطيط أن 6 من أصل 10 نساء، تتراوح أعمارهن بين 18 و64 سنة، يتعرضن لأحد أشكال العنف. نفس الدراسة تقول بأن 55 في المئة من النساء تتعرضن للعنف من طرف أزواجهن وأن 3 في المئة فقط يتقدمن بشكاوى للقضاء أو الشرطة.

فهمت أن "الفيمينست"، رجلا كان أو امرأة، لا يشبه تلك الصورة الكاريكاتورية التي يلصقها به البعض، كشخص هستيري يحارب الذكور

​​في بلجيكا، تسببت الجرائم التي ترتكب في حق النساء من طرف الأقارب في وفاة ضحايا يتجاوز عددهن ضحايا الإرهاب (25 في أول ثلاث فصول من 2018، و39 ضحية سنة 2017).

في العشرية الأخيرة، تم قتل 1740 امرأة في إيطاليا من طرف أقاربهن، 1251 منهن داخل بيت الأسرة و846 منهن قتلن من طرف الزوج.

اقرأ للكاتبة أيضا: #آسية_بيبي: جرعة الماء التي تقتل

دون الحديث عن إشكاليات أخرى قد لا يسع الحيز للحديث عنها: التحرش الجنسي، والذي أدركنا عبر "#MeToo" أنه آفة عالمية، تعدد الزوجات، التقسيم غير العادل للإرث، تشغيل وتزويج القاصرات... هناك أيضا سؤال الجنسية، حيث لا يحق للنساء في العديد من بلدان منطقتنا إعطاء الجنسية لأطفالهن إذا كان الزوج أجنبيا (اللهم بعض الاستثناءات القليلة كتونس والمغرب ومصر)، وكأنها ليست مواطنة حقيقية في بلدها بل نصف مواطنة فقط؛ وغيرها من أشكال الحيف.

لكل هذا وأكثر، أنا نسوية... نسوية لأني أعتبر أن التعليم والصحة والعدالة وغيرها من الحقوق، لا يفترض أن يكون لها انتماء جنسي. نسوية لأني لا أفهم كيف يحرم مواطن من حقوقه، لمجرد أنه ولد أنثى. نسوية لأني، بكل موضوعية، أرى واقع النساء عبر العالم فأراه مشوبا بعدم الإنصاف. ونسوية لأني أؤمن بالمساواة في الحقوق والواجبات بين كل أطياف المجتمع. بكل بساطة.

ــــــــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.