"طلال ديركي خصم النظام السوري وضحيته،أنجز فيلمه هذا غير مكترث لما قد يولده الفيلم لدينا لجهة أن بيئة الثورة في سوريا أنجبت هذا النموذج "الجهادي
"طلال ديركي خصم النظام السوري وضحيته،أنجز فيلمه هذا غير مكترث لما قد يولده الفيلم لدينا لجهة أن بيئة الثورة في سوريا أنجبت هذا النموذج "الجهادي

حازم الأمين/

أمضيت أكثر من نصف عمري المهني وأنا أتعقب "الجهاديين". كتبت عنهم مئات التحقيقات الصحافية وأنجزت فيلما وكتابا، والتقيتهم في السجون وفي مضافاتهم، وعلى الجبهات، لكنني لم أقترب منهم يوما إلى الحد الذي اقترب منهم فيه طلال ديركي في فيلمه "آباء وأبناء" المرشح لجائزة أوسكار هذه السنة.

كاميرا طلال أوصلتني وأنا أشاهد الفيلم إلى مسافة محيرة فعلا، ذاك أنني عاينت من خلالها حياة لا يمكن لي أن أنحاز لتفصيل صغير فيها، لكنني في الوقت نفسه شعرت أن لهؤلاء الرجال، الذين لا يشبهونني، وجدانات يمارسون عبرها طقوس عيشهم العادي، وحبهم لأولادهم (الصبيان) وشغفهم ومزاحهم السمج والخشن ولكن الحقيقي أيضا. والكاميرا إذ تمعن في الاقتراب من وجوههم تشعرك أن لأنفاسهم في اللحظات التي تسبق نومهم وظيفة في الصورة التي يرغب مخرج العمل في إيصالها إلينا.

المدرب في الفيلم أمير في جبهة النصرة، والمدرب في حالتي كان ضابطا في الحزب الشيوعي اللبناني

​​لكن الأهم بالنسبة لي أن طلال، في اقترابه منهم إلى هذا الحد، دفعني إلى التفكير فعلا بمدى إقدامي على تنميطهم عبر استهوال ما يقدمون عليه من أفعال. ولعل ذروة الاستهوال هي اللحظة التي يدفع بها "المجاهد" بابنه إلى معسكرات التدريب وهو تماما في عمر الفتوة الذي يفصل بين الطفولة والمراهقة.

اقرأ للكاتب أيضا: العلاقة 'الموضوعية' بين تركيا و'داعش'

هذا الاستهوال الذي لطالما مارسته في عملي الصحافي عبر رصدي فصائل المقاتلين الأطفال لدى تنظيمات من نوع "داعش" والنصرة. الفارق الذي صنعه بي الفيلم بين ما عملت وما وثقت شخصيا وبين ما شاهدت في "آباء وأبناء" هو دفعي إلى التفكير بـ"عادية" هذا الفعل بالنسبة لشخص مثلي، أنا ابن الحرب الأهلية اللبنانية ممن دُفعوا أيضا إلى معسكرات تدريب في سنوات فتوتهم الأولى. المشهد نفسه تماما. المدرب يطلق رصاصا بين رؤوسنا نحن فتية القرية في جنوب لبنان، ويصرخ بصوته منبها وزاجرا من يشعر بالخوف. المدرب في الفيلم أمير في جبهة النصرة، والمدرب في حالتي كان ضابطا في الحزب الشيوعي اللبناني، وهذا الأخير ما زال صديقا أتبادل معه مزاحا على "فيسبوك".

فكرت أنه ليس الفارق الزمني بين ما خبرته وبين ما خبره فتية النصرة هو ما صنع فارقا في استقبالنا الواقعين، فنحن ننتظر من الفتية المتدرجين في أسلاك النصرة مستقبلا قاتما وكارثيا، فيما لم نضع أنفسنا نحن من كنا عرضة لتجارب مشابهة في احتمالات من هذا النوع. لا أدري لماذا لم أفكر يوما بأن لدي قابليات موازية لتلك التي زرعتها النصرة بفتى فيلم "آباء وأبناء".

ولعل فضل الفيلم هنا يتمثل في أنه لم يدفع عن شخصياته شبهة الكارثة، إنما دفع عنا نحن مشاهديه وهما يتمثل في اعتقادنا في أننا لا نشبههم. إنهم نحن وقد تبدلت أسماء الحروب وأشكال خوضها، لكنها بقيت حروبا وبقي الموت نفسه على مدى عقود حروبنا المديدة.

وفي الفيلم عشرات المشاهد التي دفعتني إلى الشعور بذلك. فالأب "المجاهد" الذي يعلم أطفاله في غرفة الضيافة يركن رشاشه في زاوية بالقرب من السرير بوصفه جزءا عاديا من أثاث الغرفة، يمر الأطفال بقربه من دون أن يكترثوا لوجوده، هذا المشهد هو جزء من ذاكرتي الخاصة، ولطالما زرت منازلا كانت البنادق الرشاشة فيها جزءا من أثاث المنزل، وفي أحيان كثيرة من زينته. وما ينجم عن تحول الرشاش إلى مشهد مألوف في وعي طفل، نالني منه ما نال طفل جبهة النصرة في فيلم طلال ديركي.

أن يتولى مخرج معارض توثيق هذه الحقيقة، فهذا يُشعرك أن ثمة صوابا وسط هذا الخراب في سوريا

​​لكن، لفيلم ديركي فضل آخر، لكن ليس عليّ هذه المرة، فطلال من جيل المخرجين السوريين الشباب ممن وجدوا أنفسهم في حركة الاحتجاج على النظام يحملون الكاميرا لتوثيق انتهاكات النظام، واستمر الشاب يعمل في تهريب الصور إلى أن غادر سوريا. طلال خصم النظام وضحيته أنجز فيلمه هذا غير مكترث لما قد يولده الفيلم لدينا لجهة أن بيئة الثورة في سوريا أنجبت هذا النموذج "الجهادي"، وهو أمر ولّد تحفظات فنانين ومثقفين معارضين. الفيلم وثيقة كاشفة على هذا الصعيد، وأن يتولى مخرج معارض توثيق هذه الحقيقة، فهذا يُشعرك أن ثمة صوابا وسط هذا الخراب في سوريا. وهنا أيضا تلوح حقيقة أن سينما النظام لم تقترب يوما من مادة تدينه، وهذا ما يسجل لطلال ولما يمثله من خيارات.

اقرأ للكاتب أيضا: لبنان المُهان

الفيلم يستحق "أوسكار" فعلا، وستكون الجائزة في حال نالها، جوابا على سؤالي طرفي المعادلة السورية. للمعارضين سيقول طلال إن مقولتكم يجب أن تتسع للحقيقة الثقيلة المتمثلة في انتصار الإسلاميين على الثورة تماما كما انتصر النظام، أما المواليين من السينمائيين والفنانين، فهي ستكشف عجزهم عن الاقتراب من وجه "الشبيح" الذي يمثلهم.

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.