قدم بن عبد الوهاب، ومن بعده أبنائه وأحفاده، الإسناد العقائدي للدولة السعودية في مراحلها التاريخية الثلاث وما يزالون يلعبون ذات الدور
قدم بن عبد الوهاب، ومن بعده أبنائه وأحفاده، الإسناد العقائدي للدولة السعودية في مراحلها التاريخية الثلاث وما يزالون يلعبون ذات الدور

بابكر فيصل/

وضع مؤسس المدرسة السلفية المعاصرة، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مانيفستو (إعلان) أسماه "نواقض الإسلام العشرة"؛ قال فيه إن الشخص المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكون بها خارجا من الإسلام، وحدد أهم هذه النواقض في عشرة أمور من بينها: "مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين".

استدل بن عبد الوهاب على قوله بأن معاونة المشركين على المسلمين تعتبر من نواقض الإسلام بالآية 51 من سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين".

وعلى الرغم من أن هذا الإعلان، إلى جانب العديد من الأفكار الأخرى التي دعا لها بن عبد الوهاب، شكلت مصدرا رئيسا لانطلاق موجة التكفير والعنف في العصر الحديث، إلا أنني لا أود مناقشة هذا الجانب المهم بل سأنظر في التناقضات التي أظهرتها تجربة الوهابيين في التعامل مع المبادئ التي أرساها مؤسس الدعوة.

حينما دب الخلاف بين الملك عبد العزيز بن سعود وجنوده المعروفين باسم "الإخوان" لم يتوان الملك عن الاستعانة بالقوات البريطانية

​​غني عن القول إنه قد تم استخدام الدين كثيرا لمنح المشروعية للسلطات السياسية، وفي التجربة الوهابية التي استندت إلى التحالف بين بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، قام الطرف الأول ومن بعده أبنائه وأحفاده بتقديم الإسناد العقائدي للدولة السعودية في مراحلها التاريخية الثلاث التي مرت بها، وما يزالون يلعبون ذات الدور.

لتعضيد فكرتهم القائلة بكفر كل من يُظاهر المشركين على المسلمين، يستدعي شيوخ الوهابية فتوى الفقيه القروسطي تقي الدين بن تيمية فيمن انضم إلى التتار وقاتل المسلمين، وهي الفتوى التي قال فيها: "وإِذا كان السلَف قد سموا مانعي الزكَاة مرتدين ـ مع كونهِم يصومون ويصلون ولَم يكونوا يُقاتِلون جماعة المسلِمين ـ فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين".

وهم كذلك يستدلون بالعديد من الفتاوى الأخرى، من بينها فتوى علماء المغرب بكفر وردة، محمد بن عبد الله السعدي، أحد ملوك مراكش، لما استعان بملك البرتغال ضد عمه. وأيضا الخبر الوارد في بعض مصادر التاريخ عن أن يوسف بن تاشفين استفتى العلماء حول دعوة بن عباد الأندلسي للفرنجة كي يعينوه على المسلمين فأجابه جلهم بردته وكفره.

غير أن تناقض مواقف الوهابية تجاه هذه القضية يتبين في غضِّهم الطرف أو تأييدهم لمواقف أخرى استعان فيها قادة مسلمون بالفرنجة على قتال مسلمين، حيث يحدثنا التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد تحالف مع الملك الفرنسي شارلمان ضد الأمويين الذين أقاموا دولة مستقلة في الأندلس، ومنحه لقب حامي قبر المسيح في القدس وأعطاه الولاية على المؤسسات الدينية المسيحية في الشرق الإسلامي التابع للدولة العباسية، كالتدريس والصيانة وتنظيم رحلات وقوافل الحج إليها، فهل يعتبر الوهابيون هارون الرشيد كافرا؟

وحينما دب الخلاف بين الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس الدولة السعودية الثالثة، وجنوده المعروفين باسم "الإخوان" الذين كانوا ذراعه الباطش الذي أخضع به كل قبائل الجزيرة العربية، لم يتوان الملك في سحقهم بإنزال ضربة عسكرية قاصمة بهم مستعينا بالقوات البريطانية التي استعملت الطائرات لتشتيت فلولهم ودك حصونهم وذلك في معركة السبلة عام 1929، فلماذا لم يعتبر الوهابيون الملك عبد العزيز كافرا ومرتدا عن الدين؟

وعندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين دولة الكويت في عام 1990، استعانت الأخيرة ومعها دول الخليج بعدد من الدول غير الإسلامية في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية للتصدي للعدوان العراقي. حينها أصدر مفتي السعودية الراحل عبد العزيز بن باز فتوى بعنوان "موقف الشريعة الإسلامية من الغزو العراقي للكويت" جاء فيها ما يلي"

"أما ما حصل من الحكومة السعودية لأسباب هذه الحوادث المترتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت من استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من جنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان وللدفاع عن البلاد ـ فذلك أمر جائز بل تحتمه وتوجبه الضرورة وأن على المملكة أن تقوم بهذا الواجب!".

من الجلي أن فتوى بن باز لا تخرج عن إطار الدور الذي ظلت تلعبه المؤسسة الدينية في منح الشرعية للقرارات التي يتخذها السلطان، وذلك في إطار علاقة تبادل المنافع المستمرة بين شيوخ الدين والسلطة السياسية، حيث يتكفل الأوائل بتقديم التبرير الديني بينما تغدق الثانية عليهم بالعطايا والمنح.

المواقف السياسية تحكمها "المصالح الدنيوية" بغض النظر عن الديانة التي تعتنقها الأطراف المتحالفة، فلا يوجد اختلاف بين استعانة ملك مراكش بملك البرتغال لحرب عمه والتي اعتبرها الوهابيون "كفرا"، وبين استعانة آل سعود بالأميركيين لإجلاء صدام من الكويت والتي اعتبروها "واجبا!".

كان واضحا أن لأميركا والدول الغربية مصلحة في إجلاء قوات صدام من الكويت، فالسياسة الأميركية تسعى للحفاظ على منطقة الخليج كبحيرة نفط هادئة وسالمة تستطيع أن تدر هذا النفط يوميا بمقدار عشرين مليون برميل كما تفعل الآن وبحيث لا يكدر صفو انسيابه أي عامل سياسي أو اقتصادي.

المواقف السياسية تحكمها "المصالح الدنيوية" بغض النظر عن الديانة التي تعتنقها الأطراف المتحالفة

​​ولكن ـ من الجانب الأخر ـ كان للكويتيين أيضا مصلحة في الاستعانة بالقوة الوحيدة القادرة على إجلاء جيش صدام الذي هتك أعراضهم، وقتل شعبهم، ونهب ممتلكاتهم، وابتلع بلدهم في سويعات. وعندما تقاطعت المصالح بين الكويت والغرب تشّكل التحالف الذي حرَّر الكويت والذي لولاه ما خرج "قائد النشامى" من ذلك البلد الصغير حتى يومنا هذا.

وقبل ذلك تقاطعت مصالح الفرنجة والعباسيين في مقاومة الأمويين، وقد كان ملوك الفرنجة أيضا على عداء مع البيزنطيين خصوم العباسيين، وهكذا فقد نشأ تحالف (عباسي ـ فرنسي) في مواجهة البيزنطيين والأمويين.

إن الانفصام الواضح في التعاطي الوهابي مع قضية الاستعانة بـ"المشركين" على حرب المسلمين يؤكد على ضرورة النظر إلى الموضوع من زاوية دنيوية (سياسية) محض تتعلق بكيفية عقد التحالفات بين السلطات و الدول من أجل حماية المصالح بعيدا عن ثنائية (مسلم/كافر).

اقرأ للكاتب أيضا: هيئة علماء السودان.. 'العلمانية ليست سيئة'

ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.